عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

قانون «جاستا»

خطيرٌ هو هذا القانون، وخطورته تكمن في تغييرات كبرى قد تطرأ على المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ودوريهما في صيانة السلام العالمي والتعاملات الدولية.
بعيدًا عن أي نظريات للمؤامرة، وبعيدًا عن أي تفسيرات معادية للمنطق والقراءة الواقعية، فقد بدت إدارة الرئيس باراك أوباما بعد سنواتٍ ثمانٍ من حكمه وكأنها كانت تسعى بجهدٍ واعٍ لتقويض الموازنات الدولية والتحالفات الدولية، وبالتالي التأثير العكسي على عمل المؤسسات الدولية، بمعنى أنها سعت بوعي للحد من القوة الأميركية ودورها في فرض النظام الدولي، وسمحت بوعي لكثيرٍ من الآخرين للقيام بتلك الأدوار، وتحالفت مع كل ما يؤدي لذلك، بغض النظر عن العواقب، ولنأخذ أمثلة على الطريق.
دوليًا، سمحت لروسيا بأخذ أدوارٍ لم يكن يطمح لها الاتحاد السوفياتي زمن الحرب الباردة، فأصبح فلاديمير بوتين رئيس روسيا الاتحادية مرجعًا ومحجًا لكثير من دول العالم وبخاصة في المناطق التي تعيش صراعاتٍ، ولا يمكن لأحد أن يتجاهله، وصار الكل يعربد ما شاءت له قدرته وطموحه في الطغيان على الدول الأخرى، وأصبح حلفاء أميركا أضعف وخصومها أقوى، يصح هذا في اليابان وتعاملها مع كوريا الشمالية كما يصح مع المملكة العربية السعودية وحلفائها من دول الخليج والدول العربية وتعاملها مع إيران الخمينية.
يأتي هذا التشريع الجديد في أميركا من قبل الكونغرس، الذي يعتبر هيئة مستقلة تمثل الشعب عبر مجلسي الشيوخ والنواب، ويهدد أوباما بنقض هذا القرار عبر «الفيتو» الرئاسي، ولكن ما الذي يلجئ لهذا الفيتو إن نجح أم لم ينجح، إلا رغبة الإدارة الحالية في خلق مشكلات لم يكن لها أن تخلق لو اتخذت قراراتٍ أكثر حكمة في قراءة المشهد الدولي من قبل؟
إقليميًا، اتجهت إدارة أوباما لكل ما يناقض مصالح حلفائها في المنطقة، فهي أضرت بتركيا وأضرت بالسعودية ودول الخليج، وذلك بالتوجه المباشر لإيران، إيران الولي الفقيه الساعي لامتلاك السلاح النووي والمدعوم روسيًا، والذي يعيث في المنطقة والعالم بنشر الإرهاب ودعمه، وبخلق الميليشيات الإرهابية ودعمها، وهي واعية بأنها إدارة تجترح فعل النقيض لكل التاريخ السياسي للدولة الأميركية، وتسعى لصنع تاريخٍ جديدٍ لأميركا وللعالم، ولكنها تفعل ذلك دون تفكيرٍ عميقٍ مستحقٍ بما يمكن أن تؤول له الأمور.
قانون «جاستا» إن تم إقراره والعمل بموجبه فهو سيعيد تعريف العلاقات الدولية ودور المؤسسات الدولية من جديد، فلن تعود «وستفاليا» ذات قيمة ولن تعود «هيلسنكي» ذات أثر، وستعاد صياغة عالم جديدٍ، تنهار فيه دولٌ وتحالفات وتقوم فيه دول وتحالفات أخرى، وعلى المتضرر أن يدفع الثمن.
في ملف الإرهاب الذي يمثل أولوية دولية فلنحاول التخيل، مجرد تخيل، عدم تعاون السعودية أو الإمارات العربية المتحدة في ملف ملاحقة الإرهاب والقضاء عليه، سيكون بالتأكيد عالمًا يتوسع فيه الإرهاب وتتوسع فيه منظماته، وتصل شرورها إلى كل ناحية من أنحاء العالم.
ونحن على بعد أقل من شهرين من الانتخابات الأميركية، فمن سيكون المرشح الأفضل لأميركا وللعالم؟ من سيعيد التوازن للعلاقات الدولية وللمؤسسات الدولية؟ هل هو هيلاري كلينتون التي تمثل بشكل ما امتدادًا لسياسات أوباما أم دونالد ترامب المرشح الجمهوري؟
إن إدارة أوباما هي إدارة اتبعت بوعي سياساتٍ غير ودودة مع دول الخليج والدول العربية، ومهما أظهرت من مجاملات أو أظهرت لها دول الخليج والدول العربية من مجاملات إلا أنها في النتيجة النهائية إدارة لا تكن أي تعاطفٍ أو تفاعلٍ مع مشكلات هذه الدول، بل هي سعت بوعي لكل ما يضعف هذه الدول ويقلل من شأنها، ولكنها في سبيل ذلك أضرت أكثر مما ينبغي بمصالح الولايات المتحدة الأميركية نفسها، ووضعتها في موضع لا تحسد عليه.
ثمة مشكلات عميقة في المنطقة لا تدركها هذه الإدارة، بل برهنت أنها تسعى لعكسها تمامًا في سياساتها المعلنة، ولنأخذ على سبيل المثال، سياستها تجاه الملف النووي الإيراني، وسياستها تجاه التوسع الإيراني في المنطقة، وسياستها تجاه العراق وسوريا و«حزب الله» في لبنان وميليشيا الحوثي في اليمن، وتجاه الأزمة السورية برمتها.
هل تسعى هذه الإدارة لفرض سباق تسلحٍ نووي في المنطقة والعالم؟ هل من رغبتها أن تمنح كوريا الشمالية كل الفرص لتفرض هيبتها وقوتها على دول جنوب شرقي آسيا؟ ربما لا ترغب في ذلك بشكل مباشر ولكن سياساتها تدفع بكل هذه الاتجاهات.
ثمة مشكلات كبرى، تدور في المنطقة والعالم، ولكن في الوقت الذي تسعى فيه السعودية وتحالف الاعتدال العربي للقضاء على كل ما يؤثر على التقدم الحضاري وبناء رؤى حضارية ومستقلة وتصحيح الأوضاع العامة تتجه هذه الإدارة لإفشال ذلك كله، بحسب جهدها وقدرتها.
اختلف الناس وسيختلفون حول دور «الوهابية» كما يسمونها، أو أهل السنة والجماعة ومن يمثلهم؟ وحول «الأشاعرة» و«الماتريدية» والمعتزلة وغيرها من الفرق في تاريخ الإسلام، وهي خلافاتٌ ليست ذات قيمة بالمعنى السياسي، ولكنها بالغة التأثير في المعنى الديني الذي يؤدي لاحقًا لمعنى سياسي، وما «مؤتمر غروزني» إلا حلقة في ذلك الصراع.
لقد اتضحت الصورة أكثر اليوم تجاه ذلك المؤتمر الذي رعته روسيا وأشرفت عليه، وتبرأ الأزهر صراحة من أي محاولة لتهميش دور السعودية الديني وقوتها الروحية على طول العالم الإسلامي، وثمة صراعٌ مكشوفٌ في المنطقة على من يمثل أهل السنة والجماعة؟ وبالتالي من يمثل الإسلام؟ تصطرع فيه دولٌ وجماعاتٌ، وأحزاب وتياراتٌ، وهو صراعٌ وإن بدا صراعًا تراثيًا مجردًا إلا أنه في الحقيقة صراعٌ على القوة والواقع والمستقبل.
مهمة القضاء على الإرهاب هي مهمة المسلمين قبل غيرهم والدول المسلمة قبل غيرها، ومن هنا تقوم السعودية ودول الخليج بجهودٍ جبارة لمحاربة هذه الآفة الدولية، وليس مفيدًا لأحد حول العالم لا في أميركا ولا خارجها إضعاف تلك الجهود الجبارة والمعترف بها دوليًا وبخاصة في النموذج السعودي المبهر في الحرب على الإرهاب بقوانين وتشريعاتٍ مثل قانون «جاستا» الذي يستهدف الدول الواقعة تحت نير الإرهاب ويترك حركات الإرهاب الحقيقية وجماعاته الفاعلة والتي تكوّن أسسه وجذوره والدول الراعية له وعلى رأسها إيران.
أخيرًا، يجب ألا تمنع مثل هذه التوجهات الغبية من الإصرار على المراجعة والتصحيح داخل الدول المسلمة، ولكنها يجب أيضًا ألا تمرّ مرور الكرام، فالتبعات أكبر من أن يغض عنها الطرف.

[email protected]