أحمد دياب
باحث وصحافي مصري - نائب مدير تحرير مجلة {الديمقراطية} - مؤسسة {الأهرام} - مصر
TT

حرب باردة تركية ـ إسرائيلية في شرق المتوسط

شهدت منطقة شرق المتوسط خلال السنوات القليلة الماضية عدة تطورات لافتة، تمثلت في بروز محاور للاستقطاب وملامح للتحالفات بين القوى الرئيسية فيها، قد تمهد بدورها لإعادة رسم خريطة المنطقة بصورة جذرية خلال المرحلة المقبلة، وبطريقة نوعية وغير مسبوقة في تاريخها الحديث، وهو ما يهدد بعودة نمط جديد من الخلافات والتوترات، وربما النزاعات والصراعات، بين دول المنطقة، خاصة بين تركيا وإسرائيل، الدولتين الطامحتين لتولي زعامة المنطقة وتقرير مصيرها، وهو ما يعني نشوب حرب باردة إقليمية بين الدولتين تسعيان من خلالها لاستقطاب الحلفاء واحتواء الخصوم، لكن هذه المنافسة ليست «مباراة صفرية» بينهما، ولكنها محاولة لحيازة أكبر قدر من الأوراق والخيارات في لعبة التوازنات والمنافسات الإقليمية بينهما، وفي ذات الوقت لا تريد أطراف ثالثة في المنافسة التركية – الإسرائيلية أن تكون بالضرورة طرفا حليفا أو خصما لأي منهما، بل إن بعض دول هذه الأطراف الثالثة تحاول استخدام هذه المنافسة الإقليمية بين تل أبيب وأنقرة في توسيع هامش حركتها الدبلوماسية والحصول على مكاسب إقليمية من هذا الطرف أو ذاك.

وتكمن دواعي نشوب هذه الحرب الباردة الإقليمية بين تركيا وإسرائيل بالأساس في إحساس كل طرف منهما بأهليته لتولي هذه الزعامة الإقليمية، إذ تدعي كل منهما أنها جديرة بها وتأنس في نفسها القدرة على توليها، إشباعا لطموحاتها الواقعية أو المتخيلة وإرضاء لكبريائها وغرورها القومي. فإذا كان من نافلة القول إن إسرائيل تعاني من إفراط وتضخم في الذات القومية إقليميا، ومن نرجسية تدعي «مركزية يهودية» عالميا، وحيازتها لأسباب القوة المعبر عنها بتقدم تقني مشهود، وبقوة عسكرية مفرطة تجعل منها مجرد جيش له دولة، فإن تركيا هي الأخرى تأنس في نفسها أسباب القوة السياسية - الاقتصادية - العسكرية - الديموغرافية والثقافية والتاريخية لقيادة المنطقة، أو بمعني أصح العودة لقيادتها بعد نحو قرن من الغياب عنها.

بيد أن هناك بعض المستجدات والتطورات الجذرية في المنطقة ساعدت على احتدام هذه المنافسة، لعل أهمها ظاهرة «الربيع العربي»، التي غيرت خريطة المنطقة بشكل دراماتيكي، وأثرت بصورة عميقة على موازين القوة الإقليمية. ويبدو أن تركيا وإسرائيل (وإيران) هما أكثر الدول والقوى الإقليمية الراغبة والساعية للاستفادة منه وتوجيهه لمصلحتها، عبر التأثير في مساراته تحقيقا للفرص وتفاديا للمخاطر، فإذا كانت تركيا قد جمدت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل قبيل هذه الثورات، على خلفية الهجوم الإسرائيلي على سفينة «مرمرة» التركية، التي كانت تسعى لكسر الحصار عن غزة في مايو (أيار) عام 2010، فإن إسرائيل فقدت «كنزا استراتيجيا» في مصر بعد إزاحة الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير (شباط) 2011، ووصول محمد مرسي إلى سدة الحكم في 30 يونيو (حزيران) 2012، وفي حين أن تركيا فقدت شريكا وجارا عربيا هو سوريا بفعل الثورة فيها، فإن مصر باتت، في عهد مرسي، أقرب شريك لتركيا في المنطقة. ففي 13 سبتمبر (أيلول) 2011، جرى الإعلان عن إنشاء مجلس أعلى للحوار الاستراتيجي للتنسيق والتعاون بين البلدين في كل المجالات، خلال زيارة أردوغان إلى مصر، وأجرت الدولتان مناورات بحرية مشتركة في ميناء «أكساز» العسكري التركي تحت عنوان «بحر الصداقة 2011»، التي تكررت صعلى السواحل المصرية في المتوسط، في أكتوبر (تشرين الأول) 2012، لكن سرعان ما تلقت السياسة التركية انتكاسة كبيرة بعد تدخل الجيش المصري لعزل مرسي في 3 يوليو (تموز) الماضي، وهو الأمر الذي ندد به أردوغان كثيرا، وصولا إلى اتهام إسرائيل بالوقوف خلفه. والواقع أن استفادة إسرائيل من عزل مرسي في سياق منافستها مع تركيا يأتي من قبيل «دهاء التاريخ» أو «مصائب قوم عند قوم فوائد»، وليس لأن مرسي كان أكثر عداء لإسرائيل، بل لأن مصر كانت أكثر صداقة لتركيا، وكان بإمكان أردوغان المحافظة على هذه الصداقة مع الحكم الجديد في مصر لولا تغليبه الجوانب الآيديولوجية على الاعتبارات السياسية والاستراتيجية.

في المقابل، فإن إسرائيل ومنذ أن دخلت العلاقات التركية - الإسرائيلية في توترات، بدأت في إعادة صياغة تحالفات جديدة في المنطقة تعمل من خلالها على تحصين نفسها ونقل الضغط إلى خصومها في الوقت عينه، وقد وجدت في شرق المتوسط ضالتها على ما يبدو من خلال اليونان المنافس التاريخي لتركيا وقبرص اليونانية. وذكرت تقارير كثيرة أن إسرائيل واليونان توصلتا إلى اتفاق سري في سبتمبر 2011، يتيح لتل أبيب نشر قوات جوية وبحرية على القواعد اليونانية في المتوسط لمواجهة التحرك التركي الجوي والبحري المتزايد فيه. وأجرت إسرائيل واليونان الكثير من المناورات الجوية والبحرية المشتركة كان آخرها المناورات المشتركة في سبتمبر الماضي، والتي اختلفت هذه المرة عن المناورات السابقة بحجمها وأهدافها وطبيعة مهامها.

أما العنصر الثالث في احتدام المنافسة الإقليمية أو الحرب الباردة التركية - الإسرائيلية في شرق المتوسط فهو التنقيب عن النفط والغاز، إذ تشير التقارير العلمية إلى أن منطقة شرق المتوسط تحفل بثروة هائلة من الغاز الطبيعي، وجرى الإعلان عن اكتشافات في تلك المنطقة تجاوزت احتياطاتها 1.22 تريليون متر مكعب قدرت قيمتها الحالية بنحو 220 مليار دولار، وتقع هذه البحيرة داخل الحدود البحرية الإقليمية لست دول: تركيا وسوريا وقبرص ولبنان ومصر وإسرائيل، وتتطلع دول المنطقة إلى هذه الثروة بآمال كبيرة، فإسرائيل تحتاج إلى هذه المصادر الجديدة للطاقة بعد توقف تصدير الغاز المصري شبه المجاني، ولبنان بحاجة إليها كمصدر للدخل يساعد على تسديد ديونه الخارجية التي قاربت الخمسين مليار دولار. وقبرص بحاجة إليها لتجنب الوقوع في المأزق الذي يكاد يخرج اليونان من الاتحاد الأوروبي ومن منطقة اليورو. وسوريا تحتاج لهذه الثروة لإعادة بناء اقتصادها في مرحلة ما بعد الثورة، أما تركيا فإنها لا تستغني عنها، ليس فقط كمصدر إضافي للدخل، إنما كمصدر وطني للطاقة، علما بأن تركيا لا تنتج لا نفطا ولا غازا، ولكن حتى الآن، لم يجرِ التوصل لاتفاق بشأن إمكانية الاستغلال المشترك لها، مع ملاحظة أن الطرف الإسرائيلي يعتمد منطق القوة وفرض الأمر الواقع في الاستيلاء على هذه الموارد، الأمر الذي يدفع الآخرين، وعلى رأسهم تركيا، إلى محاولة التنسيق مع خصومها، أو الضغط على شركائها، لمواجهتها في هذه القضية أو غيرها.

ومع أن هذه الثروات قد تقدم فرصا للتعاون بين تركيا وإسرائيل من قبيل مد خط أنبوب الغاز من حقول الغاز الإسرائيلية والقبرصية إلى تركيا، والذي أبدت شركة تركية استعدادها منفردة لإنشائه، وهو الأمر الذي تشجعه الولايات المتحدة ضمن استراتيجية إقليمية شاملة، إلا أن تعقيدات الأزمة السورية وعقد المنافسة الإقليمية بين أنقرة وتل أبيب، فضلا عن توترات العلاقات التركية - الأميركية على خلفية الأزمة السورية والوضع في مصر، يعرقل عودة العلاقات التركية - الإسرائيلية إلى أيامها الخوالي في المدى المنظور.

* باحث وصحافي مصري - نائب مدير تحرير مجلة «الديمقراطية» - مؤسسة «الأهرام» - مصر