مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

ما أمتع أن يكون المرء حيًا

استمتعت بقراءة يوميات لفتاة اسمها (روبن ديفيدسون) وعمرها لا يزيد على (25) سنة، حيث قطعت مع جمالها الأربعة وكلبتها مسافة (2700) كيلومتر، عبر منطقة صحراوية جافة في أستراليا لمدة (195) يومًا.
أي أن المسافة تقارب المسافة من (القريات) شمالاً، إلى (نجران) جنوبًا في السعودية.
وعندما عزمت هي على أن تقوم بهذه الرحلة منفردة، قطعت دراستها الجامعية، وتقول: «شددت رحالي واتجهت نحو الساحل الغربي لأستراليا، وفي صحبتي جمالي الأربعة، وكلبتي ديجيني».
ومن المفاجأة المرعبة أنها عندما أفاقت من نومها أحد الأيام، وإذا بها لم تجد ثلاثة من جمالها، فتملكها الهلع، إذ إن كل مؤنتها من طعام وماء على ظهورها، ومعنى ذلك أنه سوف يُقضى عليها لا محالة خلال يومين.
غير أن الله لم يتركها وحدها، فعند غروب الشمس، وإذا بها تلمح جمالها على البعد وهي قادمة وكأن الله سبحانه هو الذي ساقها إليها، فأخذت تبتهل وتشكر ربها الذي لم ينسها.
وللمعلومية، فالجمال استوردت أصلاً من الهند إلى أستراليا للاستعانة بها، عندما قرر الإنجليز مد خطوط السكك الحديدية، وعندما انتهت مهمتها أطلقوها وتكاثرت وأصبحت وحشية.
وهي تقول: «الجمل البري الذكر لا يتورع عن قتلك إذا كان نازيًا، فهو يحاول أن يأخذ إحدى نياقك عنوة ولن يتوقف إلا رميًا بالرصاص. ورأيت على بعد مائتي متر ثلاثة جمال جسيمة، وكان من الواضح أنها نازية وهي تشتهي ناقتي الغالية التي سميتها (زليخة)، وخوفًا عليها من الاغتصاب، فما كان مني إلا أن تناولت البندقية وصرعت الجمل القائد بأربع رصاصات، أما الآخران فقد سارعا بالهرب».
ومن المواقف التي أفرحتها في يومها الحادي والسبعين من الرحلة، عندما شاهدت لأول مرة بقعة خضراء تتلألأ على البعد، وتقول: «فتلاشى خوفي بعدها وتملكني الضحك، ولم تلبث الجمال أن شربت وشربت ديجيني وأنا كذلك، ثم أخذت حمامًا بالماء البارد، فيا للضحك ويا للمرح واللعب، وما أمتع أن يكون المرء حيًا». أما الموقف (الدرامي) الذي هزها من الأعماق، فهو أن كلبتها التهمت طعامًا مسمومًا يضعونه في الصحراء للقضاء على الكلاب البرية، وعندما شاهدتها منطرحة على الأرض ترتجف من شدة الألم وتموت موتًا بطيئًا، «ما كان مني مرغمة إلا أن أطلقت على رأسها رصاصة الرحمة، وبعدها أغمي عليّ، وما أن أفقت حتى شعرت أنني أصبحت الآن فعلاً وحيدة لا أنيس ولا جليس».
هناك مفارقات كثيرة في تلك الرحلة لا يتسع هذا الحيز المحدود لذكرها.
ولكن السؤال هو: هل هناك فتى ولا أقول فتاة من عالمنا العربي، يستطيع اليوم أن يقوم برحلة منفردًا من القريات إلى نجران على ظهر جمل، دون أن يقول: يا ماما؟!