محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

العقلية «الدوغماتية»

أحد أسوأ تصرفات الإنسان أن يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة، وأنه ليس بحاجة إلى رأي آخر يستند إليه، وإن فعل كان ذلك «تعطفًا» على من حوله. حينما نفعل ذلك نحن نمارس درجة من درجات الدوغمائية أو الدوغماتية، وهي التعصب لفكرة معينة مع عدم الرغبة للاستماع أو قبول الرأي الآخر الذي يناقضها.
لا يهمنا المعنى الآيديولوجي أو الديني بقدر ما تشغلنا هذه العقلية الخطيرة التي تنتشر في مجتمعاتنا لأنها تُمارس صورة من صور الاستبداد أو التعسف في الرأي. فحينما نقدم على قرار ما ونضرب عرض الحائط بالتداعيات القانونية والمالية والاجتماعية، فنحن نعجل بوتيرة السير نحو الهاوية.
ولولا جوهرية الآراء في تدعيم قراراتنا لما كان هناك حاجة إلى مرؤوسين ولا لنواب من حولنا. ولصار في كل إدارة مدير منفرد، لا يرأس أحدًا، ولا يريد أن يجتمع مع نظرائه لأنه هو وحده «العليم» و«الخبير». ونحن حينما نفعل ذلك نتناسى أن كل قرار يحتاج إلى أكبر عدد من معطيات ذلك الزمان الذي يصدر فيه. فالفارق بين القرار المدروس وغير المدروس أن الأول أشبع بحثًا وبني على قاعدة معلومات متينة عكس الثاني الذي بني على أهواء أو نظرة فردية ضيقة. في كل سيارة في العالم هناك أكثر من زاوية ومرآة عاكسة لتؤكد لصاحب السيارة أو القرار أنه يسير بالاتجاه الصحيح. وتجاهل آراء من حولنا مثل تجاهل تلك المرايا.. قد يقودنا لنهاية مأساوية.
ليس ذلك فحسب، فبعض القرارات تتطلب أن ننظر إلى الأمور من زوايا متعددة، وهنا تبرز ثمار آراء من ينطلقون من خلفيات ثقافية واجتماعية وتعليمية متعددة. فهذا يعني حتى الصغير الذي نتجاهله في الاجتماع قد يدلي بدلوه في قضية فنية أو تكنولوجية مهمة لم ننتبه إليها.
وهذا يعني أن اللجان أو «مطابخ القرارات» يجب أن تطعم بثلة من المتخصصين مع الحذر من تسيد أي نفس دوغماتي أو تعسفي يفسد أجواءه. بعض المسؤولين يحرص على تعيين عضو في لجنة كل مؤهلاته تنحصر في تسريب وقائع الاجتماع بدقة! هو في الواقع يريد أن يدير الاجتماع بعقلية دوغماتية مغلفة باستشارة زائفة أو شكلية. كل هذا لا يدفع عجلة المؤسسة نحو الأمام ولن يثري آراءها.
لا بأس من تجاهل بسيط لبعض الآراء إذا كان القائد يملك رؤية ثاقبة أو خبرة أعمق، لكن إذا استمر تجاهل من حوله فهذا إما يعني أن فريقه لم يعد له فائدة أو أن المسؤول مصاب «بداء الدوغماتية».
وتنطبق معضلة «الدوغماتية» على البلدان أيضًا؛ فبعض الطوائف السائدة تريد أن تسحق الأقليات من شعبها لاعتقادها بأن الوطن ملكها وحدها. الشعوب التي جربت ذلك طحنتها الحروب الأهلية ثم اضطرت صاغرة للعودة إلى طاولة الحوار وقبول الآخر. مشكلة هذا الفكر الذي يشبه العقلية الدوغماتية أنه لم يذق ويلات الحروب ولم يتعظ من عبر التاريخ.
لدينا مطلق الخيار أن نكون دوغماتيين أو منفتحين على كل الآراء، لكن مشكلة الخيار الأول أن عواقبه وخيمة، ولن يقف معنا في محنتنا أحد ممن ضربنا بآرائه الوجيهة مرارًا عرض الحائط.