محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

سر انتماء العرب للجماعة

حينما أبدع ابن خلدون في وصفه للشعوب وطبائعها في مقدمته، لم يكن يستند إلى تحليل علمي أو رقمي، وإن كانت استعانته بالشواهد التاريخية والموضوعية مسألة مثيرة للاهتمام والتأمل. غير أن العالم الشهير جيرت هوفستد قد جاء بنظرية تعد من أولى النظريات التي تقيس بمعايير رقمية الفوارق بين عشرات الثقافات في العالم ومنها العربية، فتوصل إلى أربعة محاور أولية، ارتفع عددها لاحقًا، منها الفردية individualism.
ما يهمنا أنه أظهر «علميًا» ما كنّا نعرفه بأن الثقافة العربية هي ثقافة جماعية collectivism جاءت في ذيل قائمة الفردية بمعدل 38 مقابل 41 لإيران، فيما حصلت أميركا على 91 وهو معدل عال جدًا في الفردية؛ الأمر الذي يظهر بوضوح حقيقة «الحلم الأميركي» الذي يجعلها فعليًا أرض الأحلام لكل فرد ينشد تحقيق مجده. وأبلغ دليل على ذلك الرئيس الأميركي من أصل أفريقي أوباما الذي لم تصله قبيلته أو عشيرته لتحقيق حلمه برئاسة أقوى دولة في العالم. والأمر نفسه ينطبق على بلدان مثل بريطانيا التي حصلت على معدل 89.
ببساطة ما وجده العالم هوفستد أن البيئات العربية ينتشر فيها مفهوم أن المرء يولد في عائلة ممتدة أو العشيرة التي تحميه، بطبيعة الحال، مقابل ولائه لها. وأرى أن الأمر هنا لا يتعلق بالقَبَليَة، بل حتى في البيئات الحضرية تجد الفرد العربي عمومًا يتوقع أن «يفزع» له أحد أفراد عائلته الممتدة بالمساعدة حينما يحتاج إلى أمر ما وهذا ما يفسر أن لبنان ومصر ودوّل الخليج، مع اختلافهم الثقافي، قد حصلوا على معدل الجماعية 38 نفسه.
كما نرى في هذه النظرية أن المجتمعات العربية تسود فيها العلاقات - بشكل عام - على العمل أو المهمة التي ينهمك الفرد في أدائها Task، عكس المجتمعات الغربية. ونلاحظ أيضًا أن الثقافات الغربية (الفردية) تعتبر التعبير عن الرأي أمرًا صحيًا، في حين تعتبر الثقافات (الجماعية) ومنها العربية أن ذلك يجب أن يراعي مسألة التوافق الاجتماعي، وأن الجماعة تلقي بظلالها بصورة أو بأخرى على آراء الفرد.
معرفة الفروقات الثقافية تهمنا جميعًا لأننا أصبحنا نعيش في قرية عالمية. ويزداد هذا الأمر أهمية لدى القياديين الذين تتطلب قراراتهم التعامل مع أجانب أو توظيفهم في فريق عمل يسعون إلى أن يكون أفراده منسجمين أو ربما يُطعّمونهم بعناصر غربية في مسعى إلى تغيير شيء من خصائص عناصر الفريق المحلي. ومعرفة طبائع العرب علميًا قضية مهمة وهذا سبب كتابتي لبعد مهم في مقالي السابق بعنوان «العرب في نظرية هوفستد»، وهو لماذا «يقبل بل يتوقع العربي» أن يقوده من هو أقل كفاءة منه.
قرأنا الكثير عن أسرار انتمائنا للجماعة في ديوان العرب لكننا هذه المرة نسلط الضوء على مؤشر علمي ورقمي في دراسة هوفستد. ويبقى في كل عمل بشري ما يُؤخَذ منه ويُرَد، كما يقال.