د. شملان يوسف العيسى
كاتب كويتي
TT

تركيا ما بعد الانقلاب

لا تزال تبعات الانقلاب الفاشل في تركيا مستمرة، حيث لا تزال السلطة السياسية مستمرة في اقتلاع وملاحقة كل من له صلة بالانقلاب، وشمل ذلك القطاع الأمني في الجيش والسلطة القضائية والأكاديميين في الجامعة من دكاترة وطلاب ورجال الإعلام والموظفين وحتى الحرس الخاص برئيس الجمهورية.
تركيا اليوم في مفترق طرق؛ إما ترسيخ النظام الديمقراطي الذي اختاره الشعب التركي أو العودة إلى النهج القديم الذي سارت عليه الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002.
كنا نتوقع أن يتخذ الرئيس إردوغان بعد فشل الانقلاب العسكري خطوات جادة لترسيخ النظام الديمقراطي بعد الحصول على تأييد الشعب المطلق وخروجه للدفاع عن مكتسباته الديمقراطية واستغلال هذا الزخم والتأييد الشعبي بالاتجاه نحو التمسك أكثر في الاستمرار بالإصلاحات الاقتصادية والتنمية التي حققت له ولحزبه تأييدًا شعبيًا تم به تحقيق الأغلبية في البرلمان التركي بعد الانتخابات الأخيرة عام 2015. الرئيس التركي مع الأسف اتخذ نهجًا جديدًا إقصائيًا يجنح به للانتقام من مخالفيه في الرأي كلهم حتى وإن كان سلميًا.
الدولة التركية الحديثة التي بدأت مع ثورة أتاتورك في العشرينات بإسقاط الدولة العثمانية وترسيخ الدولة العلمانية الحديثة، قامت على دور جوهري للمؤسسة العسكرية، حيث يعتبر جيش تركيا سادس أقوى جيش في العالم وثاني جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة.
إهانة القادة الكبار في الجيش مع المجندين والمنتسبين للقطاعات المختلفة من قبل الشرطة والميليشيات التابعة لحزب العدالة والتنمية أو أنصارهم لا يمكن قبولها بسهولة من أفراد القوات المسلحة.
السؤال البديهي الذي يجب طرحه من الذي سيتولى مسؤولية الأماكن الشاغرة سواء في الجيش أو الاستخبارات أو السلك القضائي وقطاع الجامعات والتعليم والإعلام وغير ذلك.. من سيحل مكان الآلاف من المسرحين؟ حتمًا سيكونون من الكوادر الحزبية في حزب العدالة والتنمية أو من يؤيدهم من الشعب.
هل هؤلاء مؤهلون لتولي هذه الوظائف العليا في مؤسسات الدولة، خصوصًا سلك القضاء والتعليم الجامعي أو المدارس الخاصة؟... يبدو أن النهج الجديد للحكومة التركية في التعيين في كل المناصب الحكومية أو غيرها يعتمد اعتمادًا كليًا على الولاء الشخصي للرئيس أو حزب العدالة والتنمية بدلاً من الولاء للوطن والكفاءة العلمية والإدارية والخبرة التراكمية وغيرها.. ما مصير المؤسسة العسكرية العريقة؟ هل سيتم تطعيمها بكوادر الحزب من رجال دين أو شباب مسيس إسلاميًا؟
ماذا عن التعليم الذي كان متميزًا في تركيا بعد أن تم إغلاق الكثير من الجامعات الحكومية والخاصة وتم تسريح الآلاف من الأكاديميين والمدرسين.. وإغلاق المئات من المدارس الخاصة فقط لمجرد أن التعليم في هذه المدارس يتم تمويله من الزعيم الديني المعارض فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة.
من أخطر نتائج الانقلاب الفاشل هو أن تركيا اليوم لن تعود كما كانت سابقًا.. جملة الإطاحات والاعتقالات والإقالات التي طالت الآلاف من المشتبه بتورطهم في الانقلاب أو الناس الأبرياء الذين تعتقد الحكومة أنهم موالون للداعية فتح الله غولن.
الاتحاد الأوروبي بدوره أعلن في بيان له معارضة إعلان حالة الطوارئ في تركيا، وذكر أن الإعلان جاء بعد سلسلة من القرارات غير المقبولة باتخاذ إجراءات مشددة تجاه قطاعات كاملة مثل القضاء والتعليم والإعلام، وطالب الاتحاد الأوروبي تركيا باحترام سيادة القانون تحت أي ظرف كان ومراعاة حقوق الإنسان وحرية التعبير، بما في ذلك حق الأشخاص بالحصول على محاكمات عادلة.
من المفارقات الغريبة أن نجد تيارات الإسلام السياسي العربية، وتحديدًا الإخوان المسلمون، تدعم وبقوة الإجراءات التي اتخذها الرئيس إردوغان وحزبه بعد الانقلاب واعتبرت ذلك انتصارًا للإسلام وهزيمة للعلمانية، مع أن إردوغان عمليًا وفعليًا لم يغير من طبيعة النظام العلماني.. بل حافظ على مؤسساته الدستورية والسياسية.. لكن الرئيس التركي بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة بدأ يفكر في الانفراد بالسلطة على الطريقة الإخوانية في الحكم، لذلك أبعد المعارضة الحقيقية له من البرلمان (حزب الشعب الكردي)، كما قلص صلاحيات رئيس الحكومة أوغلو، حيث أبعده عن السلطة مع أنه أحد منظري ومؤسسي حزب العدالة والتنمية.. يبدو أن الرئيس إردوغان وحزبه يريدون الاستحواذ على كل السلطات وإقصاء كل من يعارضهم. لا توجد رؤية واضحة حتى الآن إلى أين تتجه تركيا في السنوات القادمة، لكن الأمر المؤكد بالنسبة لنا هو أن رياح التغيير بدأت، فإضعاف الجيش والعبث بالسلطة القضائية وتقليص صلاحيات البرلمان مؤشرات على بروز الدولة الاستبدادية، والأخطر من ذلك هو تغيير هوية المجتمع التركي التي أصبحت مهددة، لأن المجتمع التركي مجتمع متعدد الهويات والقوميات والأعراق والأديان، وهذا التنوع هو الذي جعل من تركيا دولة متقدمة تحت نظام علماني يسمح للجميع بتداول السلطة وممارسة حقوقه الدستورية، لكن طموحات إردوغان هي الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.