مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

اعمل المعروف وارمه في البحر

هناك رأي يقول: إن العبد لا يصلي إلا من أجل أن يطلب من الله الأجر والمغفرة، وهذا رأي أو فعل طيب لا غبار عليه، وهو من صفات المؤمن الصادق.
غير أن هناك فعلاً آخر لا يقل عظمة عن ذلك الفعل التعبدي، وهو أن تقدم الخدمة لإنسان في مأزق، وليس بينك وبينه أية علاقة أو معرفة أو مصلحة، بل إنك قد لا تراه بل ولا تميز ملامحه.
إن ذلك الفعل من وجهة نظري هو قمة الأثرة والتضحية من دون أدنى مقابل، وعلى سبيل المثال إليكم هذان الموقفان؛ الأول يرويه صاحبه قائلاً:
كان الشارع الثالث بنيويورك يكاد يكون خاليًا عندما خرجت للحصول على صحيفة المساء، وقد ذهلت عندما سمعت جرس التليفون الموجود في أحد الأكشاك العامة يدق بشدة وأنا أمر بجواره، ودفعني الفضول إلى رفع السماعة وسمعت صوتًا يسأل عما إذا كان هذا هو الشارع الثالث، وعندما أكدت له ذلك، وجه نظري إلى بعض أجهزة شركة الكهرباء الموجودة على مقربة من الكشك، وسألني عما إذا كنت أرى ضوء تحذير أصفر هناك، فقلت له إنه ليس مضاء، فاعترف في لهجة ألم بأنه نسي إضاءته، ثم قال متوسلاً: اسمع يا صديقي إنني الآن موجود بعيدًا في ضاحية برونكس، وإذا لم يضأ سوف أنال عقابًا قاسيًا فهل تعتقد أنك تستطيع إضاءة هذا النور؟ وسوف أقدر لك هذا الجميل.
كان الجهاز يبدو معقدًا ولكن تملكتني الرحمة ووافقت على أن أحاول، واتبعت تعليماته وأحسست بارتياح عندما أدرت المفتاح فأضيء النور، وملأ وهجه الشارع.
وصحت في التليفون قائلاً: لقد أضاء، لقد أضاء.
وسمعت محدثي على الطرف الآخر من الخط يتنهد في ابتهاج، ثم تمنى كل منا للآخر مساء سعيدًا.
والموقف الثاني ترويه صاحبته قائلة: بينما كنت أنتظر الحافلة طويت عصاي البيضاء ووضعتها في حقيبة يدي وجاءت إليّ فتاة صغيرة تقول: هل لك يا سيدتي أن تساعديني في عبور الطريق؟ لقد أوصتني أمي ألا أقطع الطريق بمفردي.
ولم أشأ أن أزيد مخاوف الفتاة بإخبارها أني عمياء أو بتناول العصا من الحقيبة، بل قلت لها: ليكن ما تريدين يا صغيرتي، خذي بيدي ودعينا نقطع الطريق. وأطاعتني الصغيرة وعند الخطوط البيضاء قلت لها: الآن انظري يمينًا ويسارًا ودعينا نجتاز الطريق وهي خالية من السيارات، وإذ قالت لي إن الطريق خالية، عبرنا إلى الجانب الآخر.
وهناك شكرتني وتابعت نزهتها، أما أنا فانتظرت حتى اختفى وقع خطاها، ثم سحبت عصاي لأقطع الطريق عائدة من جديد. – انتهى.
لا شيء أضيفه بعد ذلك، فعلاً لا شيء.