رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

مشكلات تصدع الدول والمجتمعات أمام القمة العربية

على مشارف انعقاد القمة العربية بنواكشوط، يبرز تصدع الدول والمجتمعات العربية باعتباره أهم القضايا والمشكلات التي يواجهها العرب جميعًا. فهناك المأساة السورية التي تتوالى وقائع القتل والتهجير والحصار والتجويع لعشرة ملايين وأكثر في جنباتها. وهناك القضية الليبية التي تظل الحرب دائرة في جنباتها. وهناك الحرب اليمنية التي يبدو أفقها مظلمًا وغير واعد. وهناك الحرب الدائرة في العراق، وظاهرها مكافحة أخطار «داعش»، وباطنها المصيرُ غيرُ الواضح للعراق دولةً ومجتمعًا. وهناك القضيةُ الفلسطينية التي تزداد آفاقُها انسدادًا مع تصاعد الجبروت الإسرائيلي إلى ما لا نهاية. وهناك أخيرًا وليس آخِرًا «القضية اللبنانية»، نعم القضية اللبنانية الذي تتحلَّل الدولة فيه تحت وطأة استيلاء حزب الله على المؤسسات والقرار إلى أمدٍ لا يدري أحد مداه أو مخارجه.
وفي معظم هذه المآسي تحضُرُ إيران بميليشياتها ودعاواها الطائفية والتخريبية، كما يحضُرُ العالم الدولي، وأبرز فاعليه إلى جانب الأمم المتحدة كلٌّ من روسيا والولايات المتحدة.
ماذا بوسع القمة العربية أن تفعل أو تقول لهذه الشعوب والكيانات المتصدعة؟ ففيما عدا اليمن، الذي لا يزال لدول مجلس التعاون الخليجي - السعودية والإمارات خاصة - العمل الأبرز فيه من أجل إنهاء النزاع وإعادة الأمل، فإنّ المشكلات الأخرى لا يكاد يكون للدول العربية - وهذا إذا أرادت - تأثير بارزٌ فيها، وأقصد بالتأثير البارز القدرة على التدخل العسكري أو السياسي، أو هما معًا، من أجل إنهاء النزاعات، واستعادة الرشد والرشاد، وفتح أُفُقٍ على مستقبلٍ آخر. لماذا اختفى التأثير العربي، أو تضاءل، أو تآكل؟ هناك من جهةٍ تعقُّد المشهد، وزيادة التدخلات الخارجية غير العربية. لكنْ، هناك أيضًا ازدياد ضعف دول الجامعة العربية، وعدم قدرتها على التأثير، حتى لو أرادت. ولنضربْ مثلاً بالمشكلة اللبنانية؛ ففي عام 2006، عندما نشبت الحرب بين حزب الله وإسرائيل، تدخلت الدول العربية، وتدخلت الأمم المتحدة، وفُرضَ وقفٌ للنار، وجاءت قواتٌ دوليةٌ لتتمركز على الحدود بين لبنان والكيان الصهيوني. لكنْ بعد سنتين (2008)، عندما احتلّ حزب الله بيروت بقوة السلاح، بدت الدول العربية الرئيسية أقل قدرة، إذ لم يذهب اللبنانيون إلى السعودية كالعادة، أو إلى مصر من قبل، بل ذهبوا إلى الدوحة، وأجرَوا صلحًا هشًا ما لبث أن انهار بعد أقل من ثلاث سنوات، وتُرك لبنان تحت رحمة، أو ارتهان، إيران! والأمر نفسُه جرى في فلسطين ومعها. إذ منذ استيلاء حماس على غزة، عام 2007، إلى اليوم، ما أمكن التأثير العربي على فتح وحماس، بحيث تتصالحان رغم جهود السعودية ومصر، في حين لم يندفعوا هم للتصالح رغم أنّ الكيان الصهيوني يكاد يأكلهم جميعًا. ففي أربع دولٍ عربية، هي العراق وسوريا ولبنان واليمن، تتدخل إيران وميليشياتها، ولا يُنكر عليها أحد ذلك دوليًا أو إقليميًا، باستثناء السعودية. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ إيران صارت تملك شركاء دوليين (تارةً روسيا، وطورًا أميركا) لمساعدتها على التفكيك والتصديع السياسي والطائفي، حيث لا تستطيع ميليشياتها وحرسُها الثوري إكمال التخريب! ونموذج سوريا ليس وحيدًا، فهناك العراق أيضًا. في سوريا تتشارك إيران مع روسيا، وفي العراق مع الولايات المتحدة! وعندما يقرأ أحدُنا الصحف، أو يستمع إلى الفضائيات، يسمع ويقرأ أن بين إيران وروسيا، أو بين إيران والولايات المتحدة، هذا الافتراق أو ذاك، وهذا الخلاف أو ذاك. لكنْ حتى لو كان ذلك صحيحًا أحيانا، فإنّ الخلاف البادئ أو الناشب لا يمكّن العرب من الإفادة لصالح التهدئة في هذا البلد أو ذاك، لأن الأطراف العربية لا تستطيع التأثير على الطرفين الدوليين، إمّا بسبب الضعف أو عدم الاهتمام.
لماذا هذا التعب العربي؟ وكيف يمكنُ الخروجُ منه؟ ما أتى الضعف بسبب «الخواء الاستراتيجي» الذي تحدث عنه الراحل الأمير سعود الفيصل، عام 2010، بقمة سِرت بليبيا (واحسرتاه، على سرت!)، وحسْب، بل بسبب الاهتزازات العنيفة والزلزالية أحيانا في البنى الاجتماعية والكيانات بعد عام 2011. يضافُ لذلك، العنف الإرهابي الناجم عن انفجار الإسلام السني الذي نال شُواظُهُ من الجميع. فلننظر إلى مصر التي نال منها هذان الأمران: زلزال عام 2011، والإرهاب السيناوي الذي لا تكاد تخرج منه، لكي تستطيع التفكير بحدودها مع ليبيا، وبقضيتها مع إثيوبيا بشأن النيل، وبأزمتها الاقتصادية التي لا تنحسر، بل تتمدد!
ومع ذلك كلّه، أو رغم ذلك كلِّه، فإن القمة العربية تستطيع أن تقول وتفعل وتؤثّر في كثير من الأمور. لقد بقيت القمة العربية، وبقيت الجامعة العربية، وهذا مؤشرٌ مهمٌّ له دلالاتٌ بارزة. فالانعقادُ بحدّ ذاته دليلٌ على استمرار حضور الانتماء العربي. والانتماء العربي قضيةٌ كبيرةٌ بسبب الاستهداف الإيراني الفظيع، وبسبب الظلال الدولية للإرهاب، وآثاره على العرب والإسلام العربي. وقد أنجزت المملكة العربية السعودية، في عام 2015، التحالف العربي من حول اليمن، في حين ما أمكن فعل الكثير حتى الآن في التحالف الإسلامي. وهذا يعني أن الانتماء العربي يستطيع أن يفعل، أو لا يزال قادرًا على الفعل، بما يتجاوزُ المسائل الرمزية. والانتماء العربي هذا يمكنه الدخولُ من جديد على خطِّ فلسطين، وليس من باب الحلّ العادل، ومشروع عام 2002 بقمة بيروت، فقط، بل من باب تجديد محاولات المصالحة بين رام الله وغزّة، رغم عدم نجاح المحاولات السابقة. وما يمكن فعلُهُ في فلسطين، يمكن فعلُ مثيلٍ له يكون أكثر فعالية في ليبيا. فهناك الحلّ الدولي للمشكلة الليبية، ويمكن للقمة العربية والجامعة القيام بمحاولة الإصلاح بين شرق ليبيا وغربها، بعد أن عجز عن ذلك المبعوث الدولي.
وبعد تجديد محاولات الإصلاح والتصالُح، هناك الشراكات التي يمكن إقامتها، ودائمًا مع القول: رغم عدم نجاحها من قبل. وأنا أفكّر بالمشكلة السورية. فالتحالُف العربي الذي يوشك أن يحقّق شيئًا معتبرًا باليمن، يمكن توسيعُهُ، ويمكن التماس شركاء في سوريا من أجل حماية المدنيين والحلّ السياسي. لا بد من وجودٍ عربي على الأرض السورية، وهناك شركاءُ قلّةٌ متاحون، إذا جرى تجاوُزُ الفيتو الأميركي، بحيث يتيح التدخل العربي في سياق قوات سلام مشتركة عربية وإسلامية ودولية، قُدُراتٍ على الدخول في الانتقال السياسي من جهة، ومنع تقسيم سوريا من جهةٍ أخرى. لا أحد غير الإيرانيين والأكراد يريدون التقسيم، أما الفرقاء الآخرون فهم لا يزالون علنًا مع وحدة الأرض والشعب السوري. وهناك فرقاء دوليون متعاونون مع السعودية، وغيرها من دول الخليج، في مكافحة الإرهاب، ولذلك فإنّ التعاون المتبادل ممكن. عروبة سوريا مهدَّدة، وكذلك وحدة أراضيها. ولذا، فإنّ الشراكة، التي تأتي ضمن الانتقال السياسي، ووقف النار، تصبح عملاً من أعمال الإنقاذ، وصنع شيء بناء يعيد شيئًا من الأمل للشعب السوري، وللعرب جميعًا. فمرحبًا بالقمة العربية التي نرجو أن يحضرها مسؤولون كثيرون. يا للعرب!