أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

الإرهاب ـ لا أحد آمنًا في أي مكان

عندما بدأت الموجة الأولى من العنف المرتبط بمنطقة الشرق الأوسط في فترة السبعينات، كان الافتراض السائد في الغرب أن الظاهرة المثيرة للقلق تعكس الغضب العربي حول القضية الفلسطينية.
ولكن في فترة الثمانينات، وبرغم كل شيء، ظهرت موجة جديدة من الإرهاب، تلك التي اجتاحت المدن الأوروبية في المقام الأول، وكانت مرتبطة بالثورة الخمينية في إيران.
وبحلول فترة التسعينات بدأت الموجة الثالثة من الإرهاب، وافترض وقتئذ أنها متعلقة بالغضب الإسلامي من الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. ولكن مع دخول عام 2000، برغم ذلك، أصبح من الواضح وبجلاء للجميع، الذين كانوا يرغبون وبقوة في الاعتقاد بأن هذه الظاهرة لا تمتد بأصولها إلى أي قضية سياسية معينة.
لم تخفف اتفاقيات السلام الإسرائيلية مع كل من مصر والأردن من حدة الهجمات الإرهابية. كما أن اتفاقات أوسلو لم تحقق انخفاضا يُذكر في وتيرة العنف والإرهاب.
ولم يهدأ إرهاب نظام الخميني بحقيقة أن إدارة الرئيس ريغان، وبمساعدة الإسرائيليين، عملت على تهريب الأسلحة إلى إيران من أجل هزيمة صدام حسين في الحرب الإيرانية العراقية. وفي عام 2001. لم تكن هناك قوات أميركية تُذكر فيما يُعرف بقلب العالم الإسلامي. وبرغم ذلك وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية في قلب الولايات المتحدة.
ومنذ ذلك الحين، برز للعيان وضع جديد، على حدّ تعبير منظر تنظيم القاعدة يوسف العييري في كتابه «الحكم في البرية»، فليس هناك أحد آمن في أي مكان في العالم، باستثناء جيوب الأراضي التي تسيطر عليها السلطات الإسلامية «الحقيقية».
لقد ارتكب العالم خطأين كبيرين في تحليله لإرهاب المتطرفين. وكان الخطأ الأول هو ربط إرهاب المتطرفين بقضايا معينة، مفترضا أنه بمجرد تسوية هذه القضايا سوف يتلاشى الإرهاب ويندثر. والخطأ الثاني كان افتراض أن هناك إرهابيين طيبين وآخرين سيئين.
خلال الـ15 عاما الماضية كان العالم يحاول التوافق على تعريف واحد للإرهاب وفشل. وكانت تلك المسألة على جدول أعمال قمة الدول الصناعية السبع وقمة الدول الثماني الكبرى وقمتين أخريين لمنظمة المؤتمر الإسلامي. وفي كل عام، كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تتصدى للأمر من دون نتيجة تُذكر.
وهناك أسباب عدة لذلك.
أولها أن العالم المعاصر يفترض وبصورة تلقائية أن كل تعريف يشتمل على عنصر من عناصر الحكم الأخلاقي. وهكذا افتراض من شأنه أن يسبب مفاجأة مروعة لأرسطو نفسه، أبو التعريفات في العالم القديم، والذي كان يعلم أن توصيف الأشياء على النحو الذي يجدها عليه كان عملا باردا، وإكلينيكيا بدرجة معتبرة، ذلك الذي لا ينضوي على أي تقييم أخلاقي للتعريف من أي درجة.
ومثل هكذا تقييم يصب في مجال عمل الأخلاقيات، وهي فئة مغايرة تماما. وكان لأرسطو أن يقول في المقام الأول ما إذا كان الطرح صحيحا من عدمه قبل أن يخبرنا ما إذا كان يوافق عليه من عدمه. فإن الحقائق مقدسة في حين أن الآراء حرة.
والسبب الثاني هو أن جدليات علاقة الفاعل والمفعول ليست على المسار الصحيح في هذه الحالة. ودعوني أوضح لكم. فلنأخذ الحرب كمثال للشرح. فإن كل من يشنها ومن يقع ضحية لها يتفقان على ماهيتها. الكل يعرف أنها حرب.
ويمكن للبادئ بالحرب أن يسميها: حربا عادلة، أو حرب المقاومة، أو يستخدم أي توصيف يروق له ويعتقده مناسبا ومؤديا لأغراضه منها. وينسحب نفس الأمر على ضحية الحرب. حيث يوافق كل منهما، برغم كل شيء، على أن ما تورطا فيها سويا هو الحرب. وتلك الحقيقة الواضحة جعلت من الاتفاق الدولي على تعريف الحرب ممكنا، وساعد بمرور الوقت على تقنين قواعد الحرب.
ويمكن سحب نفس التوضيح على السرقة. فقد يبرر السارق أفعاله بما يروق له: فقد يسرق بمبرر الفقر أو الانتقام أو السرقة من الأغنياء ليعطي الفقراء، وغير ذلك. ولكنه لا ينكر أن الاستيلاء على ممتلكات الغير بصورة غير قانونية يسمى سرقة.
وفي حالة الإرهاب، مع ذلك، ليس هناك أساس تعريفي مشترك بين الجاني والضحية.
والضحية، إن ظلت على قيد الحياة، تصرخ بأنها تعرضت لعمل من أعمال الإرهاب. أما الجاني، إذا توفرت لديه الشجاعة للاعتراف بجرائمه، فإنه يتباهى بأنه كان يفعل شيئا آخر: القتال في الحرب المقدسة على سبيل المثال.
ولم يكن هذا هو الحال على الدوام.
حتى وقت قريب، كان الإرهاب معروفا ومفهوما، على الرغم من استياء ونفور الكثيرين منه على أي حال، بأنه حقيقة من حقائق الحياة البشرية. ولقد كان الإرهاب معروفا عند هوميروس جيدا وموصوفا في الإلياذة، والتي كان بطلها الأبرز «أخيل» يحمل لقب «الإرهابي».
وتباهى زعماء الثورة الفرنسية لعام 1793 بتوصيف سياساتهم بعبارة «الإرهاب الكبير». ولم يكن روبسبير أو سان جوست يشعران بتأنيب الضمير عند وصفهما بالإرهابيين. والنشيد الوطني الفرنسي «لامارسييز» يحتوي على عدة مقاطع تؤيد وتدعو إلى الإرهاب، ولا سيما ضد أعداء الثورة والأجانب.
وكان الشعبويون الروس يفاخرون بأن يطلقوا على أنفسهم لقب «الإرهابيين»، في حين كان الفوضويون، منذ عهد الأمير كروبوتكين وحتى نيشاييف المتشرد، كانوا يشيدون بالإرهاب ويصفونه بأنه «أرقى صور العمل الثوري». وبعض من أبطال دوستويفسكي يتأرجحون ما بين الإرهاب والمسيحية كمسارات بديلة نحو الخلاص.
وفي عام 1905، كان حيدر اموغلي رائد الشيوعية في إيران يسمي منظمته السرية باسم «لجنة الإرهاب». وكان أعضاء اللجنة يعرفون باسم «إخوة الإرهاب».
وكان غافريللو برينسيب، المواطن الصربي القومي المتطرف الذي اغتال فرانز جوزيف ولي العهد النمساوي في سراييفو عام 1914 يفاخر بأنه يسمي نفسه «الإرهابي».
ولم يكن الزعيم البلشفي لينين يخجل من الوعظ والدعوة إلى الإرهاب، بوصفه وسيلة من وسائل تعزيز ثورته الوليدة. وكان زميله ومنافسه تروتسكي قد ألف «مرسوم الرهائن» سيئ السمعة والذي قنن للنظام الثوري اختطاف أطفال وزوجات مسؤولي الحكومة القيصرية واغتيالهم، معتبرا ذلك وسيلة من وسائل «نشر الإرهاب».
وفي الفترة بين عشرينات وحتى ستينات القرن الماضي كانت جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وما بين أربعينات إلى خمسينات نفس القرن كانت جماعة فدائيي الإسلام في إيران، يتباهون أشد المباهاة باستخدام «الإرهاب في خدمة القضايا المقدسة».
وتكمن المشكلة في أن أولئك الذين يقومون بتنفيذ الأعمال الإرهابية اليوم يرفضون تماما وصفهم بالإرهابيين. وذلك بسبب أن الإرهاب لم يفقد فقط بريقه الثوري الأخاذ، ولكنه أيضا بسبب الاعتراف العالمي به كصورة وحشية من أبشع صور العنف السياسي. وليست هناك، بطبيعة الحال، من فرصة لأن يستعيد الإرهاب هالته الرومانسية التي كان يحظى بها من قبل. وبالتالي، هناك مساحة جدا ضيقة لأولئك الذين يستخدمون الإرهاب، لأن يعترفوا بأن أعمالهم تندرج تحت هذا التصنيف. وطالما ليس هناك من أحد على استعداد للاعتراف بأنه إرهابي، فلن يستطيع أحد فرض تعريف عالمي موحد للإرهاب.
فما هو السبيل للخروج من هذه المعضلة؟
يمكننا بالطبع الإشاحة برؤوسنا والاعتراف بأنه في العالم الذي يسأل «ما هو تعريف التعريف»، لا وجود لفرصة حقيقية للوصول إلى تعريف محدد للإرهاب وفق الشروط المقبولة عالميا. وبعد كل شيء، هناك الكثير من الحقائق في الحياة التي نعجز عن تعريفها وفق تلك الشروط. على سبيل المثال، كلنا نعرف ما هو الغباء ولكننا لن نتفق أبدا على تعريف موحد ومقبول للغباء.
أو، يمكننا الاقتراب من الإرهاب بوصفه وسيلة، أو شكلا من أشكال العمل، والابتعاد عن أدنى تلميح ممكن للحكم الأخلاقي على المسألة عند طرح تعريف عالمي لها.
ومن شأن هكذا مقاربة أن توفر لنا تعريفا ممكنا للإرهاب: بأنه أي عمل أو سلسلة من الأعمال العنيفة ضد المدنيين بغرض إقناع بعض من كل المجتمع، أو مجموعة من المجتمعات، بالقيام أو تنفيذ أو فعل أمر يفضله الإرهابيون، أو التوقف عن القيام أو تنفيذ أو فعل أمر لا يفضله الإرهابيون.
وبمجرد تعريف الوسيلة، يمكن للمجتمع الدولي طرح الأمر للمناقشة ما إذا كان يجب، أو لا يجب إضفاء الشرعية، أو تقنين، أو إعلان تلك الوسيلة بأنها جريمة يعاقب عليها القانون ومن ثم الشروع في مكافحتها. ويتساءل المرء ماذا كان بوسع أرسطو أن يقول في هكذا نقاش.