حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

روسيا «تتنفط» عندنا!

بينما يتركز حديث الإعلام العربي بخصوص روسيا في دعمه المطلق لنظام بشار الأسد الدموي، وطبعا أحداث أوكرانيا والقرم الأخيرة، فإنه يغفل التعاطي مع جانب مهم جدا يخص الشرق الأوسط تحديدا، وهو أن الروس لديهم اهتمام في غاية الحساسية، يتعدى بكثير فكرة دعم رئيس نظام دموي يقتل شعبه.. إنه الطاقة والنفط. روسيا وببطء شديد تسعى لأن تكون لاعبا نافذا ومهما جدا في النفط والطاقة، وتحديدا في منطقة الشرق الأوسط، وهذه مسألة «جديدة تماما» على الروس، لأن هذا الموضوع كان حكرا، ولأطول مدة ممكنة، على شركات من الغرب، مثل «شل» و«بي بي» و«شيفرون» و«إكسون موبيل» و«توتال»، وغيرها من هذا الوزن وهذه المكانة، إلا أن الروس باتوا اليوم أحد اللاعبين الرئيسين في صناعة النفط حول العالم، بسبب حجم الاحتياطي والصادرات في قطاعي النفط الخام والغاز، مما حسّن التقنية لديهم، وطوّر بالتالي الخبرات المطلوبة لهذا النوع من التخصص، وانفتحت على أثر ذلك شهية الروس لأسواق جديدة وغير مسبوقة.

فجاء الاتفاق الكبير مع النظام السوري، الذي منح الروس الحق «الحصري» لاستكشاف النفط والغاز على السواحل السورية كلها، وذلك لمدة 25 سنة، وطبعا جاء هذا الأمر من النظام السوري كمكافأة «سياسية»، اعترافا بفضل بوتين وروسيا في إبقاء نظامه على قيد الحياة حتى الآن، وذلك بالدعم الأمني والاستخباراتي والاقتصادي والعسكري والدبلوماسي والسياسي بشكل غير مسبوق. الروس لديهم قناعة كاملة بأن منطقة شرق المتوسط البحرية بها أحد أهم المخزونات الاستراتيجية من الغاز حول العالم اليوم، وأن روسيا بثقلها المهم جدا اليوم في صناعة الغاز «يجب» أن يكون لديها الكلمة الأولى والحق الأهم في الحصول على حقوق الاكتشاف والتنقيب، ولتأكيد ذلك وللبرهنة على أن الصفقة الروسية مع بشار الأسد لم تكن «استثنائية»، وأنها جزء من رؤية روسية متكاملة، قام بوتين في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي بتوقيع اتفاق مهم ولافت مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي كان في زيارة رسمية للعاصمة الروسية موسكو، لأجل تطوير حقلي غاز على سواحل قطاع غزة، وهما حقلان جرى اكتشافهما منذ 14 عاما، من قبل شركة «بريتش غاز»، إلا أن الاعتراضات الإسرائيلية وانطلاق الانتفاضة الثانية في عام 2002 أوقفت المشروع.

روسيا قدرت أن شركة «غازبروم» الروسية ترغب في 106 مليارات قدم مكعب من الحقلين في المستقبل القريب، وذلك بعد زوال الاعتراضات الإسرائيلية الآن. إسرائيل لم تصر وتعاند كثيرا على موقفها الرافض القديم، لأنها مشغولة باكتشاف آخر لاحتياطي الغاز الذي جرى الإعلان عنه على سواحلها هي وقبرص وسوريا ولبنان في المنطقة البحرية المشتركة بين هذه الدول الأربع، وهي اكتشافات وُصفت بالمذهلة، لأنها تُقدّر بأكثر من 30 تريليون قدم مكعب (هذه الكمية للمساحة المحسوبة للجانب الإسرائيلي فقط، ولكم أن تتخيلوا أحجام الكميات الأخرى).

روسيا ستنفق أكثر من مليار دولار لتطوير حقلي غزة اللذين يعتقد أن بهما مخزونا مهما من الاحتياطي يتجاوز التريليون قدم مكعب، بعمق ألفي قدم في قاع البحر المتوسط، بعوائد متوقعة تتراوح بين ستة إلى سبعة مليارات دولار في العام الواحد. قبرص هي الأخرى في مراحل أولية ومهمة من التنقيب، وذلك عن طريق شركة «نوبل» الأميركية بهيوستن في ولاية تكساس، وهي الشركة نفسها التي اكتشفت حقول إسرائيل، وتقدر أن قبرص لديها احتياطي يقدر بسبعة تريليونات قدم مكعب.

روسيا ترى كل ذلك فرصة عظيمة «لفرد عضلاتها» في هذا المنطقة من العالم بأسعارها المنافسة، وقدرتها المالية المتعاظمة، وتأثيرها المتعاظم في سوق النفط والغاز، ولذلك كانت «مفاجأة» لكثيرين حينما وقعت شركة «غازبروم» الروسية مع شركة «ليفانت» الإسرائيلية لتسويق إنتاج الغاز من حقول تمار الإسرائيلية، لأن ذلك عدّ اختراقا هائلا في حصة تقليدية للغرب عموما، وللشركات الأميركية تحديدا.

روسيا تراهن على أنها ستتمكن من تكوين حصة مهمة من الغاز والنفط في الشرق المتوسطي، وخصوصا على حصتها الحصرية في الحقول السورية.

روسيا قررت أن لا تقف كالمتفرج في سباق وصراع الطاقة والنفط، فهي رأت خرائط العالم تتبدل وتتغير ركضا وراء نهم النفط، بسبب تدخل كبريات الشركات الغربية وحكوماتهم، واليوم الصين تسعى لموضع قدم نفطي استثنائي في أفريقيا، وروسيا قررت أن تكون أوروبا سوقها الرئيسة ومناطق جديدة حول العالم منابع استكشاف وتنقيب لزيادة قوتها ونفوذها.
روسيا «تتنفط»، وعلى العالم التعايش مع ذلك!