ليونيد بيرشيدسكي
TT

لم غموض البنوك المركزية؟

إزاء رد فعل للأسواق المالية تجاه تعليقات جانيت يلين في أول مؤتمر صحافي لها كرئيسة للاحتياطي الأميركي، ربما يبدو من المنطقي التساؤل حول ضرورة التزام البنوك المركزية على مستوى العالم بالدقة والوضوح بشأن سياساتها المستقبلية.
وحتى وقت اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008 كان التوجيه الشفهي – التحذير المسبق بشأن ما سيفعله أي بنك مركزي للتعامل مع معدلات الفائدة الخاصة به – يمارس بشكل رئيس في الاقتصادات الأصغر حجما في دول مثل جمهورية التشيك وإسرائيل ونيوزيلندا وبعض دول الشمال. وجد الباحثون أن تجاربهم كانت إيجابية، حيث التزمت البنوك المركزية بتعهداتها بالشكل النموذجي ونجحت في تثبيت معدل التضخم والتوقعات الخاصة بسياستها، وهو ما يوضح السبب وراء استخدامها لمسألة التوجيه في المقام الأول. ورغم ذلك، لم تكن المعلومات الإضافية بشأن المسار المستقبلي لمعدلات الفائدة ذات جدوى في هذا الصدد على وجه التحديد. وطالما ظل أي بنك مركزي جديرا بالثقة مع إمكانية الاعتماد عليه، فلا يجب عليه الخوض في التفاصيل المتعلقة بخططه.
وبعد ذلك حدثت الأزمة المالية العالمية، وبدأ البنك المركزي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا المركزي وبنك اليابان في توفير التوجيه المستقبلي بغرض وجود المزيد من الحوافز وتحقيق الاستقرار للأسواق التي تعاني من حالة الاضطراب. ووفقا لإحدى الدراسات التي صدرت مؤخرا عن بنك التسويات الدولية، حظيت هذه التجربة بالقليل من القبول.
واستعرض بحث بنك التسويات الدولية ثلاثة أنواع من التوجيه الشفهي، وهي: التوجيه الكيفي، مثل بيان البنك المركزي الأوروبي الصادر في يوليو (تموز) لعام 2013. الذي أشار إلى أن «مجلس الإدارة يتوقع بقاء معدلات الفائدة الرئيسة للبنك المركزي الأوروبي بنفس معدلاتها الحالية أو بمعدلات أقل لفترة أطول». وتمثل النوع الثاني في التوجيه المعتمد على التقويم، مثل بيان البنك المركزي الأميركي الصادر في سبتمبر (أيلول) 2012 والذي أشار إلى «أن توقع البنك احتمالية الحفاظ على المستويات المنخفضة لمعدل احتياطيات الخزانة الفيدرالية - بشكل استثنائي – حتى منتصف عام 2015 على أقل تقدير». وكان النوع الثالث هو التوجيه القائم على الحد المسموح به، مثل تعهد بنك إنجلترا المركزي - الصادر في أغسطس (آب) 2013 – بعدم زيادة نسبته المستهدفة بمقدار 0.5 في المائة على الأقل حتى «ينخفض معدل البطالة إلى نسبة 7 في المائة».
وتوصل بنك التسويات الدولية إلى استنتاج أن جميع هذه الأنواع الثلاثة من التوجيه تميل نحو التأثير على تقلب أسعار معدلات الفائدة المتوقعة على المدى القصير فقط. ولا يبدو أن الأسواق تثق في قدرة البنوك المركزية على التعهد بالتزاماتها على المدى البعيد بصرف النظر عن مستوى ونوع التفاصيل التي توفرها. وبناء على ذلك، فإن هذا الأمر يثير تساؤلا ما إذا كان من المفيد التعهد بالمزيد من الالتزامات بشكل محدد أكثر مما يشير إليه البيان العام للبنك المركزي الأوروبي، أم لا.
ثمة دليل قوي على أن هذا الأمر ليس كذلك، ففي شهر فبراير (شباط) اضطر مارك كارني، محافظ البنك المركزي البريطاني، إلى خفض الحد الخاص بمعدل البطالة بعد ستة أشهر فقط من وضعه، وذلك بسبب وصول معدل البطالة الحد المنصوص عليه - بنسبة 7 في المائة – في فترة أقل بكثير مما توقعه، ولم يكن البنك المركزي مستعدا لزيادة الأسعار. ولتوضيح السبب وراء قراره، قال كارني بأن العقبات كانت ما تزال موجودة بما يحول دون تحقيق انتعاش اقتصادي مستدام للسماح لصانعي السياسات «بالتمهل في أمورهم بشكل مسؤول». ولذلك، فما هي النقطة المتعلقة بربط الأسعار بمعدلات البطالة على نحو غير مسؤول؟
وفي ديسمبر (كانون الأول) كان الاحتياطي الفيدرالي الأميركي محددا بشكل كبير في وضع أهداف السياسة، قائلا إنه سيبقي معدلات التمويل الفيدرالي بين صفر إلى 0.25 في المائة طالما أن البطالة لا تزال عند 6.5 في المائة وتجاوز التضخم نسبة 2.5 في المائة. وفي مايو (أيار) 2013 تحدث بين بيرنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي عن احتمالية خفض شراء السندات. حينها فقدت الأسواق توازنها، حيث أشارت ورقة بنك التسويات الدولية إلى أنه: «في حال صبت الأسواق المالية تركيزها على نواحي معينة لتوجيهات البنك المركزي، يمكن للتفسيرات الأوسع نطاقا أو إعادة تقويم التوجيه أن تؤدي إلى ردود فعل تخريبية للسوق، وقد أبرزت تطورات السوق المالي العالمي في مايو ويونيو (حزيران) الماضيين مثل هذه المخاطر ردا على إعلان الاحتياطي الفيدرالي.
شملت التطورات، أزمة عملة مدمرة في الأسواق الناشئة، والتي كانت أحد العواقب لم يكن يهدف إليها بيرنانكي.
وكانت يلين في مؤتمرها الصحافي أيضا محددة بصورة أثارة الدهشة، فعندما سئلت عن المدة التي قد ينتظرها البنك الفيدرالي قبل وقف شراء السندات ورفع معدلات الفائدة، قدمت بشكل مفاجئ إطارا زمنيا، حيث قالت: «نحو ستة أشهر، أو هذا النوع من الأشياء». ولم يتوقع المضاربون هذا، فالاحتياطي الفيدرالي ألغى للتو التوجيه المستقبلي، مشيرا إلى معدل البطالة الذي بلغ 6.5 في المائة وذكرت فقط مشاهدة قطاع واسع من المؤشرات للتحرك نحو أهدافه من التوظيف الكامل وخفض نسبة التضخم إلى 2 في المائة. ومن ثم، ما السبب وراء تقديم يلين على نحو مفاجئ عنصر التوجيه القائم على التوجيه؟ لأن التقلب بعدها سيكون نتيجة طبيعية.
كي تتمكن البنوك المركزية من التوحد في مواجهة عدم الاستقرار الاقتصادي والاضطرابات السياسية، ينبغي أن يكون التوجيه غامضا قدر الإمكان. وفي هذا المعنى، يقوم البنك المركزي الأوروبي بأفضل وظيفة لبنك مركزي رئيسي. فالأسواق تعلم أنه يرغب في الاحتفاظ بالنقد بأقل معدل فائدة ممكنة حتى يتيقن من وصول التعافي لأوروبا إلى النهاية. وهذا كاف للحفاظ على توقعات التضخم ومعدلات الفائدة ثابتة بقوة. ووضع مواقيت محددة سيكون، بالضرورة، مضللا إذا حاول بنك مركزي القيام بمهمته ولم يستخدم برامج كومبيوتر تقوم بها مدخلات معينة بالتسبب في حدوث أفعال غير مخطط لها مسبقا.
* خدمة «بلومبيرغ»