شارل جبور
TT

ثلاث لاءات جديدة

يشكل الموقف السعودي من «حزب الله» فرصة حقيقية للقوى السيادية في لبنان شرط أن تُحسن التقاطها، وأن تحظى بتفهم سعودي لكيفية الاستفادة منها والبناء عليها والتعامل معها. فالأساس اليوم يكمن في مدى قدرة الفريق السيادي على التوفيق بين عدم تفويت هذه الفرصة المنتظرة منذ عقود ومن كل دولة تحرص على سيادة لبنان واستقلاله، وبين الحفاظ على الاستقرار الذي شكل أحد أبرز ثوابت السياسة المعتمدة من قوى 14 آذار منذ خروج الجيش السوري من لبنان في عام 2005.
وإذا كان لا يفترض أن يتحول الاستقرار إلى مادة ابتزاز، كما هو حاصل منذ عام 2005، يستخدمها «حزب الله» لجر 14 آذار إلى المزيد من التنازلات السيادية، فإن تجنب الحرب الأهلية يجب أن يشكل هدفًا لبنانيًا وعربيًا ودوليًا، خصوصًا أن اللبنانيين خاضوا هذه التجربة المرة على امتداد 15 عامًا، ما يجعل المعادلة الفضلى التي يجب أن تحكم ممارستهم السياسية محكومة بثلاث لاءات: لا لتفويت الفرصة المتمثلة بالحزم السعودي، لا للحرب الأهلية في لبنان، لا لاستمرار المساكنة على شكلها الحالي.
وعلى رغم صحة النقاش في الموقف السعودي المتساهل تاريخيًا والذي يختلف شكلاً ومضمونًا عن الموقف الحالي، فإن الأمور في نهاية المطاف تقاس في لحظتها الراهنة، فيما المراجعة ضرورية في رسالة ضمنية وعلنية إلى المملكة أن اللبنانيين اعتادوا على النمط القديم للسياسة السعودية، وبالتالي تعويدهم على أن النمط الجديد لا يحصل بكبسة زر، بل يتطلب تهيئة ومتابعة، وهذه مسؤولية مشتركة، لأن المواجهة واحدة ومشتركة.
ومن هنا التركيز من الآن وصاعدا يجب أن ينصب على المعطى الجديد المتمثل بالقرار السعودي الذي يجسِّد التوجه السعودي المستجد، حيث لا مصلحة إطلاقًا بالنأي عنه، إنما السعي إلى لبننته، أي ترجمته على أرض الواقع، ويحصِّن الموقف اللبناني الرسمي، ويضمن مستقبل لبنان في أي تسوية مقبلة.
فخطورة النأي بالنفس عن هذا القرار تكمن في احتمال ابتعاد السعودية عن لبنان، لأنه باستطاعة المملكة أن تتخذ كل الإجراءات التي تكفل الحد من تأثير «حزب الله» عربيًا، وأن تترك بالمقابل البلد لمصيره ما دام شعبه لا يريد أي تعاون أو مساعدة، فيدفع لبنان الثمن، لأنه لا يستطيع منفردا استعادة سيادته واستقلاله، كونه بأمس الحاجة للشرعيتين العربية والدولية، وتحديدا السعودية لمواجهة الأخطار الخارجية.
وفي موازاة الحرص على الدعم السعودي، لا يفترض بالقوى المناهضة لمشروع «حزب الله» أن تتخلى عن دورها في الدفاع عن مشروع الدولة، إذ تكفي مقارنة بسيطة بين لحظة انخراط الحزب في القتال السوري واليوم للدلالة على أن تراجع حضورها داخل الساحة اللبنانية سمح للحزب أن ينتقل من مرحلة تبرير قتاله في سوريا وربطه بأسباب لبنانية، إلى مجاهرته بهذا القتال تحت عنوان «سنكون حيث يجب أن نكون»، أي ليس فقط في سوريا، إنما العراق واليمن وأي بقعة في هذه الأرض تستدعي هذا القتال.
فميزان القوى الذي نشأ بعد الخروج السوري من لبنان جعل «حزب الله» يستخدم كل حججه للحفاظ على سلاحه تحت عنوان الاستفادة من «مقاومته» للدفاع عن لبنان، ويصعب تفسير دور الحزب اليوم ومواقفه خارج سياق انهيار ميزان القوى الداخلي لمصلحته تمامًا، الأمر الذي يفسِّر هذا التمادي في القتال خارج لبنان والهجوم على السعودية.
وتذكيرا فإن المساكنة بين 14 آذار و«حزب الله» ليست جديدة أو نشأت مع الحكومة الحالية، بل بدأت فعليا مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، والاستثناء الوحيد كان مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية التي تألفت على أثر إسقاط «حزب الله» حكومة الرئيس سعد الحريري بالقوة، وبالتالي الخلل الفعلي بدأ مع الحكومة الحالية نتيجة تسليم 14 آذار باستحالة لجم الحزب أو الحد من دوره، هذا التسليم بالذات كان وراء تماديه بهذا الشكل الذي بات يشكل خطرا على لبنان.
وغير صحيح أن المواجهة السياسية تعني انزلاق لبنان نحو الحرب التي تبقى مستبعدة ما دام فريق 14 آذار متمسكا بالمواجهة السلمية، وأولوية «حزب الله» التفرغ للقتال السوري، فضلا عن أن الرضوخ لمقولة إن المواجهة تقود إلى الحرب، يحوِّل البلد إلى رهينة سياسية، ويدفع القوى السياسية إلى الاستسلام للطرف الذي بيده دفع الأمور نحو الحرب، وهذا التلويح لا يختلف عن التهديد المتواصل للنظام السوري إبان وصايته على لبنان بأن انسحاب جيشه يحيي الحرب الأهلية، ولكن هذا الجيش انسحب ولم تقع الحرب ولن تقع.
ويبقى أن قوى 14 آذار مدعوة اليوم للعمل ضمن اللاءات الثلاث المشار إليها أعلاه، فلا تفوِّت فرصة الحزم السعودي، بل تتقاطع معه بالشكل الذي تعدِّل فيه مساكنتها مع الحزب على قاعدة ربط نزاع فعلي، لا شكلي، وتتجنب الحرب الأهلية، فيما عدم استيعاب الموقف السعودي يُفقد لبنان ركيزة إقليمية أساسية من دونها يصبح لبنان في حضن «حزب الله».