تعد كلمة «التنمية»، من أكثر الكلمات رواجًا في لغة العصر في المقالات والحوارات، وهي تُعنى: بالرقي بحياة الإنسان وأدواته في هذه الحياة.
وفي مجتمعاتنا المسلمة تكتسب هذه الكلمة قدرًا كبيرًا من الأهمية، لأنها ما زالت في طور النماء.
ولا بُدَّ لأي تنمية أن يكون لها أسئلة توجه إلى أنشطة المجتمع ومؤسساته وأفراده، وبقدر ما تكون هذه الأسئلة صحيحة ومؤثرة، بقدر ما تكون التنمية في خطها الصحيح، ذلك لأن «الأسئلة الصحيحة مقدمة للتصحيح».
ومن الطبيعي أن تسأل التنمية على سبيل المثال عن أسلوب حياة الناس الذي يؤثر في طبيعة التنمية. وكذلك سيكون لها أسئلتها عن حقوق الناس، والذي يحدِّد كثيرًا اتجاه التنمية، بيد أنها لن تكون تنمية تقدم حضارة رائدة، ما لم تسأل عن واجبات الناس أيضًا كمقدمة لهذه الحقوق، فالحق يحصل ثمرة للواجب، وإذا عكست القضية، حصل فشل ذريع، وأثرة مدمرة، وهذا ما يقرره كثير من المفكرين والكتاب الذين عنوا بتقدم مجتمعاتهم، يقول الكاتب الفرنسي أنطوان دوسانت: تبنى الحضارة على ما يطلب من الناس لا على ما تقدمه لهم.
وهذا المغزى الحضاري المؤثر أشار إليه النبي، حينما ذكر للأنصار أنهم سيلقون بعده أثرة، أي منعًا لبعض حقوقهم، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «أدوا الحق الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم» ففكرة الواجب هنا مقدمة على فكرة الحق.
وإذا كان للتنمية أسئلتها التي لا يختص بها شأن دون شأن، فإن لها أسئلة موجهة للفتوى، نظرًا لطبيعة المجتمعات المسلمة التي تصدر في تصرفاتها عن مسألة «الحلال والحرام»، ومن ثم فينبغي للفتوى أن تدرس الأوصاف الإجمالية لمسائل وقضايا التنمية، ليكون لدى الفتوى الفقه المناسب الذي تستطيع أن تحل به ما يخصها من إشكالات التنمية واستفهاماتها.
إن إدراك القدر المشترك ما بين التنمية والفتوى يساعد كثيرًا على حل إشكالات التنمية من جهة، ومن جهة أخرى تكون الفتوى عاملاً مساعدًا لأن تحقق التنمية أهدافها. ومن الأوصاف المشتركة ما بين التنمية والفتوى. «الفطرية» ذلك أن التنمية الحقيقية، تتماشى قضاياها مع فطرة الإنسان الذي هو: «حارث وهمام»، ومما قرره العلماء فقهًا أن الحضارة الحق من الفطرة، لأنها من آثار حركة العقل، وأن المخترعات من الفطرة، لأنها متولدة عن التفكير، وإدراك المفتي لهذا القدر المشترك ما بين التنمية والشريعة في وصف الفطرة، يساعد على إفهام كثير من السائلين عن بعض قضايا التنمية، ذلك «أن من أعظم ما اشتمل عليه خلق الإنسان قبوله التمدن، الذي من أعظمه وضع الشرائع له».
ومن الأوصاف المشتركة ما بين التنمية والفتوى، بناؤها على تحقيق المصالح، فالتنمية من أهدافها التوسعة على الناس، والشريعة من مقاصدها السماحة، وإدراك ذلك يؤسس مجالاً رحبًا من التنمية التي تنشد صلاح الإنسان وسعادته والتوسعة عليه في حياته، وليس ذلك في مجال الضروريات، والحاجات وحسب، بل حتى في مجال التحسينات الذي يقابله في مشروعات التنمية ما يمكن أن نسميه بـ«التأنق والترفه» الذي عند تحققه على وجه صحيح، يحقق مقصدًا شرعيًا عظيمًا يتلخص في رواج المال، ودورانه بين أيدي الناس، ومن وسائل ذلك تشجيع المشروعات والمنتجات والمبتكرات التي يترفه بها الناس، وترضي أذواقهم على وجه مباح، ويؤدي إلى ظهور المواهب والفنون واستثمار القدرات.
ومن الأوصاف المهمة للتنمية أن قضاياها مركبة، بمعنى أنه في الغالب لا توجد قضية تنموية مصلحتها محضة خالية من السلبيات، والقدرة حينئذ في إجراء الموازنة الصحيحة لاختبار الإيجابيات والسلبيات ومن ثم الحكم بالنتيجة.
وتوصف قضايا التنمية أيضًا بأنها متجدِّدة، وهذه الجدة تفرض على الفتوى الاجتهاد، الذي يعني بذل الوسع والطاقة في سبيل الوصول إلى الرأي الشرعي الصحيح تجاه أي نازلة جديدة.
ومن خلال ما تقدم، ندرك مقدار الجهد الذي ينبغي أن تبذله الفتوى، وذلك ينحصر في ناحيتين لا ثالث لهما: أ - في التنظيم. ب - وفي الموضوع.
أما التنظيم فيتجلى في مؤسسة الفتوى التي لها دوائرها العلمية التي تجمع جمهرة من العلماء، ولها دوائرها البحثية التي تقوم بكل ما من شأنه دراسة الموضوع بأبعاده الشرعية والإنسانية والاجتماعية.
وأما الموضوع فإن التنمية تتطلب من الفتوى قدرًا كبيرًا من الاجتهاد، بإدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها، وعند تعامل المفتي مع التنمية، فإن من أهم المسالك التي يسلكها «مسلك المصالح المرسلة»، وطريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه المفتي في تدبير نوازل المجتمع ونوائبه الشرعية.
* الأمين العام لهيئة كبار العلماء
في السعودية
7:30 دقيقه
TT
الفتوى والتنمية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة