قبل أسابيع قليلة زار صحافي أميركي معروف من قناة «PBS» مناطق خاضعة لسيطرة النظام السوري، وقدم فيلما كاشفا لما يعنيه العيش في «سوريا الأسد»، كما سمى فيلمه، بمعنى نظرة من الداخل في مناطق سيطرة النظام، وعقلية المدافعين عنه. بنفس الفترة أنجزت قناة «Vice news» فيلما هو الأول عن تنظيم النصرة من داخل مناطقه، وكيف يحكم، وأي جيل ناشئ يتعلم في كنفه؟ فهي المرة الأولى التي يسمح فيها التنظيم لصحافي بالاقتراب إلى هذا الحد من بيئته ومقاتليه.
في الحالتين، كان الصحافيان أمينين في نقل ما يصورانه. إنهما يعلمان أنهما لا يملكان لا حرية التنقل ولا السؤال، لذلك فالمادة الصحافية هي حصرا ما يسمح النظام السوري بتصويره، وما يريد تنظيم النصرة للعالم أن يراه.
لكن حصر حرية الصحافي في حالات من هذا النوع ليس نقيصة مهنية بحق العمل نفسه، فهو يتيح مثلا لنا أن نرى حالة الفصام التي يعيشها النظام السوري في مناطق سيطرته، من خلال بناء مجمعات سياحية، وإقامة مهرجانات وحفلات، فيما جيوش العالم في سمائه، وحيث لا تبعد المناطق المنكوبة بقصف البراميل سوى بضعة كيلومترات حرفيا.
كذلك تتيح تلك الفرص لنا أن نشاهد في حالة تنظيم النصرة التربية الدينية التي ينشأ عليها أطفال في مناطق سيطرته، وفي أي أعمار يتلقون تلك الأفكار المتشددة. كان أحد الدروس التي يتلقونها في فصل مدرسي يتعلق بمشروعية مبدأ «الغنائم» في الحروب. إنها عينات مما تتيحه لنا الصحافة الجريئة الملتزمة استكشافه من دون تزويق أو دعاية أو مبالغات، أو حتى إدانة، إذ لم تزدحم كلمات الصحافيين بعبارات مشحونة بالمواقف والانفعالات وهما يقدمان صورة عن أخطر مناطق العالم حاليا. فالكلام القليل الذي حمله الصحافيان في الحالتين السابقتين كان كلامًا باحثًا عن معلومة، وعن يوميات وحكايات أشخاص ونماذج دون أي مباركة لها، أو ترويج، أو حتى شيطنة.
إيراد حالات مماثلة لدخول صحافيين مناطق، أو إجراء مقابلات مع أفراد وجهات تعتبر مسؤولة عن عنف كبير، وعن أعمال قتل وإرهاب، أمر ليس طارئا أو جديدا في عالم الصحافة، بل هو من صلب هذه المهنة. وهنا من الصعب عدم إجراء المقارنة مع حالة محلية هنا في لبنان، أعني التغطية الإعلامية لصفقة إطلاق الأسرى العسكريين، الذين كانوا رهائن لدى تنظيم النصرة. عدا عن الكم الهائل من الانتهاكات التي حفلت بها التغطية، برزت ظاهرة تجسدت في تلك المنازلة السوقية التي انخرط فيها بعض أهل الصحافة والإعلام، والتي أثارها منح تنظيم النصرة سبقا صحافيا لإحدى القنوات بعينها دون غيرها في مقابلة الأسرى قبل إطلاقهم، وتصوير مناطق النصرة. ثارت ثائرة البعض على اعتبار ذلك ترويجا لقتلة وقاطعي رؤوس. حتما كان في التغطية الصحافية التي أخضعت لشروط النصرة نواقص تتعلق بالمسافة المفترضة في تقديم المعلومة، وعدم إقحام مفردات المبالغة والتبجيل التي جعلت من مشروعية مثل هذه التغطية مشوهة. هذا الحال لا ينحصر في هذه الحادثة فقط، فلطالما وقع الإعلام اللبناني، والعربي عموما، في فخ فكرة المبالغة والتضخيم لجهة التغطيات الحصرية، سواء لأنظمة ورؤساء، أو لجماعات مسلحة كـ«القاعدة» والإخوان المسلمين وحزب الله، واليوم النصرة و«داعش».
تقول القاعدة الصحافية إنه لا شيء يحول دون مقابلة وتصوير الأشرار، ولو كانوا شياطين، لكن لذلك أصوله وقواعده، أما إعلامنا فحين يكون غارقا في الرداءة، ولاهثا خلف الإثارة الرخيصة، فلن تكون النتيجة الاطلاع على حقيقة أو معلومة، وإنما استغراق في الهراء تحت مسمى سبق صحافي.
TT
حين يمنحنا قتلة سبقًا صحافيًا
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة