د. أحمد عبد الملك
كاتب واكاديمي قطري
TT

التخلُّف الفكري وأَبعاده الحضارية

حضرت جلستين من الندوة الرئيسة لمهرجان القرين الثقافي العشرين بعنوان «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي» خلال شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، أقامها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت.
وكانت الجلستان بعنوان «التخلف الفكري وأبعاده الحضارية»، وطرح الدكتور رضوان السيد، والدكتور محمد نور الدين أفاية، رأييهما من خلال ورقتين بحثيتين.
وبودي أن أتوقف عند نقطة مهمة وردت في بحث الدكتور رضوان السيد، وهي:
«أن الحركات الصحوية المتغلغلة في بطن المجتمع تحولت بالتدريج إلى أحزاب جهادية وغير جهادية، تريد تدمير الأنظمة القائمة بوسائل متنوعة، من أجل الحلول محلها مباشرة وليس بالواسطة. وفيما بين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي، وتحت وطأة الفشل الذريع للدولة الوطنية العربية، جرت هذه العملية الهائلة للصراع على الإسلام – بداخل دولنا العربية والإسلامية – ونشب ذلك الصراع على امتلاك الموروث الديني بين الإحيائيين الإسلاميين والسلطات العسكرية والأمنية، ومثقفيها القوميين واليساريين، والمؤسسات الدينية التقليدية».
وبرأينا المتواضع فإن الحركات الصحوية – مهما كان توجهها – لم تدرس واقع الحال في البلاد العربية، حيث كانت متشرذمة ومتفرقة ومتأدلجة، ولم يكن لديها هدف سوى الإطاحة بما تعتبره «حكم الكفار»، سلميا وأحيانا دمويا، مهما كانت النتائج. وكانت هنالك فجوة بين الدولة وتلك الحركات من جهة، والمجتمع وتلك الحركات من جهة أخرى!.. كما كان العقل العربي مرهونا في دولة الخوف والتسلط والاحتكار، وهذا ما لم يوجد أرضية صالحة للحوار المؤدي إلى الإنتاجية - بكل جوانبها والتي ترفد الفعل الحضاري – التي تكفلت الدول بها بصور نختلف عليها، وبقيت الجموع التي سارت في ركب الدولة الحديثة ومؤسساتها تحاسب على استدارة رغيف عيالها، باستثناء بعض الحركات الصحوية التي ظلت تعمل في الخفاء والتي اعتمدت على (صيغة المطلق) - كما قال المحاضر الثاني د. محمد نور الدين أفاية «الأمر الذي حوّل الوجود العربي إلى وجود آيديولوجي بامتياز، يُسعف على ازدهار اللاعقلانية والتصوف والانسحاب والعنف، ويعاند كل إرادة المعرفة أو الرغبة في صياغة فهم مختلف».
فماذا كانت النتيجة؟
كما شُغل الإنسان العربي بمسألة «استلذاذ» الظلم وتكوين «هالات» من الخوف والرهبة من النظام – كما هو الحال في الحكم (التوتاليتاري) الشمولي. وفي مكان آخر من العالم العربي شُغل المواطن بشعارات معاداة الاستعمار أو إزالة آثار الاستعمار أو آثار الهزائم العسكرية. وفي بقاع أخرى لعبت وزارات الداخلية الدور الأهم في تكوين الدولة، وصياغة دولة «الخوف» عبر زوار الليل أو زوار النهار، وعبر المضايقات المعيشية الأخرى، بحيث ظل الإنسان العربي – في الأغلب – رهين رضا النظام، موافقا على عدم رفع صوته أو رأسه، مهما كانت الظروف عصية على الاستيعاب. وفي مناخات كهذه لا يمكن أن نتحدث عن تطور أو تحرر العقل من صكوك النصوص!.. وما دام الأمر كذلك، فلا يوجد حديث عن إنتاج حضاري، أو تطور مجتمعي، ما دامت كل الأوراق بيد الدولة، وما دام المواطنون «رهائن» في حظيرة الدولة. فكيف يتحقق التطور دونما حرية الفكر؟!.. وكيف ترفع الشعوب صوتها بالتطور وهي مقطوعة اللسان والحنجرة؟
ولم يكن من بد لدى «الحركات الصحوية» إلا العنف، فجاء دور «تصدير» الشباب إلى أفغانستان تحت دعاوى محاربة المشركين والكفار، ثم تحوّل «التصدير» إلى الشيشان، ولم تحقق الصحوة أهدافها!.. بل نالها من السخط المجتمعي والملاحقة الدولية والمحلية الكثير.
ثم لجأت هذه «الصحوات» – ضمن تنظيمات محددة – إلى العنف في الداخل، فحدثت عدة تفجيرات في مناطق تُعتبر آمنة في الوطن العربي. ثم جاءت فرصة سقوط النظام في العراق ودخول البلاد في ظلام الفوضى، حيث أطلت «صحوات جديدة» لم يكن في بالها إلا الانتقام من رجال الماضي، وتدعمت فكرة العداء بين الشيعة والسنة بشكل ملحوظ، وتشعبت الفكرة لتصل إلى «شهية» القتل المفتوحة، وما زالت مستمرة حتى هذا اليوم، أي على مدى أكثر من عشر سنوات.
وفي مناطق أخرى من العالم العربي كاليمن وسوريا وليبيا والجزائر من قبل، لم يفلح خطاب «الصحوات» إلا في تثبيت شهية القتل وترويع الآمنين، اللهم إلا في بعض مناطق الخليج العربي، حيث اتجهت بعض الجماعات إلى العمل الخيري المُسالم، رغم الضغط الدولي على نشاطاتها.
لقد فشلت الدولة الوطنية العربية، ليس لأن مواطنيها غير صالحين لنجاحها، بل لأن كثيرا من الأنظمة العربية لم تكن لتريد لمواطنيها أن يكونوا كذلك، لاستحواذ الجانب الأمني على مزاجها!.. وكان موضوع السيادة الموضوع «الأقدس» في فكر الدولة، فلا أحد يجوز له الحديث عن مناهج التعليم – التي وُضعت في ظروف محددة غلب عليها فكر جماعات محددة، وما كان لـ«الوحدة» الوطنية أن تتحقق ولا المجتمع المدني، لأنه كما تم تصويره لأصحاب الشأن يهدد الدولة، أو قد ينتقص جزءا من سيادتها.
وكان لغياب الحرية الأثر الرئيس في التخلف الحضاري الذي ناقشته الندوة!.. فلم تكن الفرصة متاحة لسماع الرأي الآخر في الأنظمة العسكرية، ولا كذلك في الدول الجمهورية ولا الدول الأخرى، والتي قامت على أيدي العسكر. وفي مناخ كهذا لا يمكن الحديث عن تطور حضاري. كما أن تهميش المنظرين والمثقفين عن المشهد السياسي والحضاري أسهم في تعضيد سلطة التحالف بين النظام ومؤسسات الضغط في المجتمع والتي تقوم على المصالح التجارية والقبلية أو الطائفية في مكان، والمصالح والأبعاد الآيديولوجية في مكان آخر.