أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

مخاطر الأصدقاء العمالقة

لا يمكن لأحد أن يعرف الآن موعد انتهاء التدخل الروسي في سوريا؛ فالدخول في حرب غالبا ما يكون سهلا، لكن الخروج دائما ما يكون صعبا. وبالنظر إلى التاريخ، نادرا ما يحقق هذا النوع من التدخل الذي نشهده الآن هدفه المعلن.
وإذا كانت الخطابات القادمة من موسكو جديرة بالثقة، فإن الهدف الروسي هو منع سقوط الرئيس السوري بشار الأسد المحاصر. وبغض النظر عما إذا كان الهدف قابلا أو غير قابل للتحقيق، فإنه من الجيد ألا يعول الأسد كثيرا على مثل هذه الوعود. والسبب بسيط للغاية؛ وهو أن روسيا لا تُقْدِم على مثل هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر لمجرد عيون بشار. وسواء كان الأمر صحيحا أم خاطئا، تعتقد موسكو أن لديها مصالح استراتيجية معينة في سوريا قد تتعرض للخطر في حال الإطاحة بنظام الأسد قبل تأمين موسكو تلك المصالح.
ومع ذلك، ربما لا يكون فرض الأسد على أمة لا ترغب فيه هو السبيل الوحيد لحماية المصالح الروسية. وإذا عثرت موسكو أو عُرِضَت عليها سبل أخرى، فإنها لن تتردد في إسقاط الأسد مثل البطاطا الساخنة. لكن ما هو أسوأ الآن استنتاج موسكو أن إسقاط الأسد يقوض مصالحها التي ترغب في حمايتها.
ومع تحليق الطائرات الروسية في سماء سوريا، ليس من المبالغة الاقتراح بجلوس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الآن على مقعد الطيار ما دام مستقبل الأسد يهمه لهذه الدرجة.
ومن الجيد أن يلقي الأسد نظرة سريعة على التاريخ الروسي. ومن المرجح أن يستنتج الأسد سمتين مهمتين:
السمة الأولى هي أن الأسلوب الروسي لاستعراض القوة في الخارج غالبا ما يثمر عن التحكم المركزي المباشر من موسكو. ولا يتسم الروس بالنسخة المتحررة من الإمبريالية التي مورست في بلاد فارس وروما القديمة، ناهيك عن الإمبراطورية العثمانية الأخيرة، التي سمح فيها المركز للمناطق المحيطة بحرية التصرف في كيفية الحكم الذاتي، حتى إن الحاكم العثماني كان يطلق عليه العديد من الألقاب: «خان» بالنسبة للأتراك، و«بادشاه» للمتحدثين باللغة الفارسية، و«قيصر» للمسيحيين، و«سلطان» للعرب، و«خليفة» للمسلمين السنة.. إلخ.
السمة الثانية هي أن روسيا لم تتردد أبدا في التخلي عن حليف لم تعد منه فائدة. ولا يعد الارتباط العاطفي البريطاني بالحلفاء القدامى، حتى شاه شجاع الفاسد في أفغانستان، أمرا مفهوما بالنسبة للروس.
منذ بداية القرن التاسع عشر، عندما برزت روسيا كإمبراطورية متوسعة، كانت العاصمة الروسية بتروغراد - التي أصبحت في ما بعد موسكو - تغزو الأراضي الأجنبية في الغالب تحت مظلة حماية الحكام المحليين ضد الأعداء الحقيقيين والمتوهمين. وهذا ما فعله الروس في أكثر من عشر خانات وإمارات مسلمة في القوقاز وآسيا الوسطى وسيبيريا. وفي كل حالة، يتم إلقاء الخان والأمراء «المحميين» سريعا في مزبلة التاريخ، مثلما ضمت روسيا ببساطة أراضيهم.
شاهدنا الأسلوب ذاته في شرق ووسط أوروبا بعد الحرب، عندما ضم الزعيم السوفياتي السابق جوزيف ستالين - بذريعة إنقاذ المحليين من النازية - أكثر من عشر دول إلى إمبراطوريته.
وفي الآونة الأخيرة، شاهدنا نماذج من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وشبه جزيرة القرم، التي تدخلت فيها روسيا كمخلص، وانتهى بها الحال كحاكم. وعلى مستوى مختلف، خدعت روسيا أيضًا حلفاءها في شرق أوكرانيا، وحثتهم على الثوران في منطقة ما، وشددت قبضتها على منطقة أخرى.
في عام 1945، شجع السوفيات حركة انفصالية في إقليم أذربيجان، الواقع شمال غربي إيران، بقيادة جعفر بيشيفاري. وبعد ذلك بعام، تخلت موسكو عن بيشيفاري التعيس في مقابل وعد الامتياز النفطي في شمال إيران؛ وهو الوعد الذي لم يتحقق أبدا. توفي بيشيفاري بعدها بعام، بعدما تدمر الرجل المحطم من الكحول والغم الذي أصابه.
وفي خمسينات وستينات القرن العشرين، تدخل السوفيات في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا لما يفترض أنه إنقاذ الأنظمة المحلية ضد «أعداء الاشتراكية». وفي البداية، جرى إنقاذ فلاديسلاف غومولكا في بولندا، ويانوس كادار في المجر، وألكسندر دوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا، ومن ثم تخلى السوفيات عنهم.
ويقدم التاريخ الحديث لأفغانستان أسبابا أخرى للأسد للتفكير وهو يستجدي حاميته الروسية الجديدة..
في عام 1979، دبرت المخابرات الروسية انقلابا عسكريا في كابل أخرج نور محمد تراقي - الشخصية التاريخية للحركة الشيوعية الأفغانية - خارج السجن، ووضعه داخل القصر الرئاسي. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته، اغتيل تراقي من قبل مجموعة من الجيش الأفغاني تتلقى أوامرها بشكل مباشر من المخابرات السوفياتية. وكان تراقي قد بدأ يتصرف بشكل أكبر من حجمه، متوهما أنه وصل إلى السلطة بفضل حركة جماهيرية من المضطهدين الأفغان.
وكان الرجل الذي جرى تنصيبه بعد تراقي هو حافظ الله أمين، وهو ناشط شيوعي مخضرم قضى سنوات في موسكو. وفي ذلك الوقت، اعتقد أولئك الصحافيون الذين غطوا المأزق الأفغاني أن روسيا تخلت عن تراقي لأنه لم يشعر بأنه مدين لأي شيء للسوفيات، وأن أمين قد يستمر نظرا لولائه الثابت لموسكو. لقد كنا مخطئين! في ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، أرسلت المخابرات السوفياتية فرقة اغتيال لقتل أمين في قصره، ومن ثم جرى تعيين بابراك كارمل، الرجل الذي جلبه السوفيات معه من موسكو، مكانه. ومما يزيد الطين بلة، أن موسكو نشرت «وثائق» تثبت في ما يبدو أن أمين المغتال كان عميلا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) على مدى عقود.
وُضِع كارمل - الرئيس الذي «جاء في حقيبة صغيرة» وتمكن من البقاء على قيد الحياة لكنه اختُطِف في نهاية المطاف في وقت متأخر من الليل - في طائرة، وجرى شحنه من كابل إلى مكان ما في قرغيزستان.
كان خليفته الرئيس محمد نجيب الله، رئيس الشرطة السرية، وبذلك كان على اتصال وثيق بالمخابرات السوفياتية. لكن حتى ذلك الأمر لم يضمن سلامته في نهاية المطاف. ففي عام 1992، قرر السوفيات الانسحاب من أفغانستان، ورفضوا حتى أخذ عائلة نجيب الله إلى بر الأمان معهم.
تمكن نجيب الله - الذي كان يلقب بـ«القصير ممتلئ الجسم» - من السيطرة لفترة أطول قليلا، لكنه اضطر في النهاية إلى البحث عن مأوى في مجمع للأمم المتحدة في كابل. ومن هناك، قيل إنه ظل يتوسل رفاقه السوفيات لما يقرب من أربع سنوات من أجل أخذه إلى بر الأمان، بيد أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل.
جاءت نهاية نجيب الله عندما استولت حركة طالبان على كابل، وداهمت مجمع الأمم المتحدة، وقبضت على الرئيس السابق وشقيقه من هناك. فقد نزعت طالبان خصيتيهما، ومن ثم شنقتهما علنا. وبعدها أدانت موسكو هذا «العمل الوحشي» في بيان مقتضب.