شذى الجبوري
صحافية عراقية عملت سنوات في بغداد ولندن والآن تغطي الشأن السوري
TT

المفتشون.. سنوات الجوع

وصول المفتشين أو الخبراء الدوليين سوريا هذه الأيام بحثا عن الأسلحة الكيماوية، يفتح فصلا جديدا في حكاية الأزمة السورية. فحتى منتصف العام المقبل، وهو موعد الانتهاء من تفكيك تلك الأسلحة حسب قرار مجلس الأمن الدولي اليتيم بشأن الأوضاع في سوريا، هناك تسعة أشهر، بطولها وعرضها، لم يشر القرار ولو بكلمة واحدة، لا من قريب ولا من بعيد، إلى مصير المدنيين السوريين خلالها، هذا إذا التزم نظام الرئيس بشار الأسد بالقرار ومهله الزمنية.
يذكرني ذلك بقصة المفتشين في العراق بعد غزو الكويت، وما أشبه اليوم بالبارحة. عندما قرر «المجتمع الدولي» إرسالهم بحثا عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة لتقويض نظام صدام حسين، بموازاة استمرار الحصار الاقتصادي على الشعب العراقي، أي عقوبات للطرفين. بالنسبة للغرب فإنه اختار طريقا سهلة لا تجلب له الصداع في التعامل مع نظام صدام، لكنه كان شاقا مريرا بالنسبة للعراقيين، الذين لم تكن لهم لا ناقة ولا جمل في كل ما حصل. تحولنا إلى مجرد متفرجين على لعبة القط والفأر بين النظام والمفتشين: صدام يرفض دخول المفتشين.. صدام يستقبل المفتشين.. جاء المفتشون.. غادر المفتشون.. وهكذا.
في البداية كان الأمل ما زال مزروعا بداخلنا بأن معاناتنا ستنقضي يوما ما. وكم كنا سذجا ونحن ننتظر اجتماعات مجلس الأمن الدولي كل ستة أشهر لكي يقرروا مصيرنا، فيختارون كل مرة إطالة أمد جوعنا بتمديد الحصار ستة أشهر أخرى بينما يواصل المفتشون عملهم. لم يبال بنا أحد وصم الجميع أذنيه عن أوجاعنا وعن حكايات أطفال العراق، فتمدد الحصار يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وعاما بعد عام حتى تكيفنا معه فصار جزءا منا وصرنا جزءا منه. وقررنا أن نحمل النظام وحده مسؤولية بؤسنا بإصراره على مواقفه المتعنتة، وبرأنا «المجتمع الدولي» الذي اختار أن ينسانا، وبرأنا أنفسنا، نحن الذين لم نفكر لحظة واحدة بأن نثور على أوضاعنا.
حرب الثماني سنوات لم تثن العراقيين عن عزمهم، ولا الصواريخ الإيرانية عندما كانت تتساقط ليلا على بغداد ولا قوافل القتلى وآلاف الأسرى والمعاقين. ولا المعتقلات التي يتحدثون عنها وسجون الطاغية السرية والأمن والمخابرات. لكن ما فعله الحصار الاقتصادي «الظالم»، كما كان يصفه النظام آنذاك، هو الذي هزنا، ولم ندرك كم أنه ظلمنا إلا بعد حين.
المفتشون يذهبون ويجيئون ونحن نعيش سنوات جوع طويلة، حصار تغدى وتعشى على أجسادنا.. راتب شهري لا يتجاوز الثلاثة دولارات لا ندري كيف وأين ننفقها؟ ضعفت النفوس وصغرت وتضاءلت كالأجساد التي نحلت والوجوه التي ذوت واصفرت. واختزلت حياتنا في لقمة الطعام وقوتنا، وصار الأكل فوق كل همومنا.
عرفنا الحصة التموينية الشهرية لأول مرة في حياتنا، عرفنا كيف نستدين من البقال، تفننا وابتكرنا آلاف الخطط والطرق كي نقتصد بعد حياة لم تعرف سوى الترف. انقلبت حياتنا رأسا على عقب. شوارعنا لأول مرة امتلأت بالمتسولين والجياع. أطفال يتسربون من المدارس، انتشر الفساد كالنار في الهشيم وشاعت الرشى والسرقات والجرائم بشكل مخيف.. وحكايات وقصص يدمي لها القلب.. وانهارت القيم وصار الإنسان رخيصا. وانتهى من يومها ذاك العراق الذي عرفناه. والمفتشون ما زالوا يفتشون.
إذا كان الجوع وتداعياته فعل بالعراقيين ما فعل، فما بال السوريين اليوم وهم مهددون بمجاعة، حسب منظمات دولية، ناهيك بحربهم الأهلية؟ كان الله في عونهم.