محمد بن حسين الدوسري
TT

استحضار النص «الجهادي» للفكر المتطرف

يبدو أن الفكر الإنساني في ناحيتنا لم يتطور بعدُ، ولما يبلغ الحلم لدى تلك الجماعات المتطرفة التي اختطفت النص الديني التشريعي واختزلته باستجلابها لذلك النص، دون وعي بحقيقته وتأويله فأنزلته على واقعها، وكان تكييفها لواقعها وتصويرها له يشوبه القصور والخلل، وذلك لنقص الأدوات العلمية والخبرات الواقعية لمعرفة حقيقة التكييف والتصور للوقائع، ومن ثَم طرق ومسارات استحضار النصوص الدينية كي يتم تنزيلها على ذلك الواقع، ففي طريقة الجماعات «الجهادية» المتسمة بالتطرف، وكذلك الأحزاب الدينية ذات الفكر السياسي المتطرف، خلل في كيفية الوصول لتأويل النص، وكذلك في التعامل معه وخطورة هذا التعامل حتى في كيفية زمان قراءته لطلب التأثير في المريدين من الجمهور المتدين، وإن تدني الرؤية في حقائق الكيفيات التي يُنزل فيها النص الديني بجميع الوجوه والاتجاهات في طلب التأثير بسببه، هو اللبنة والركيزة والقاعدة الأولى لنشأة التطرف الفكري والنزوع للاكتفاء على صورة واقع المجتمع الأول في عهود الصحابة الأوائل في المجتمع المدني في بدايات نشأة المعرفة الدينية الإسلامية، وهو تصور يؤزم من فكر المتلقي لتلك الكيفيات التي تؤصلها تلك الجماعات المتطرفة وأحزابها «الجهادية» في تصوير مجتمع يتميز بالطهارة والقدسية ومجتمع مليء بكل ما هو جاهلي ويتنافر مع طهارة المجتمع الأول، وهذا امتداد حقيقي لمن عرف حقيقة تلك الأحزاب والجماعات المتطرفة و«الجهادية»، وما تقدم هو ثمرة حقيقية لمسار شباب «الجهاد» الأفغاني في بداية الثمانينات.
ففي فجر يوم من أيام الشتاء القارس في عام 1986، في مدينة الهفوف، وتحديدًا في مسجد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، بدأ الإمام يقرأ بداية سورة الأنفال، وهي السورة التي تشير إلى معركة بدر الكبرى بصورة خاصة، ويتصورها أصحاب الفكر الجهادي المتطرف أنها «تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوة مادية.. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه.. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة و«الجهاد» لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس والتصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل». وكانت تلك الأيام تأتي الأخبار بأن هجومًا عنيفًا على المجاهدين في أفغانستان، فكانت المساجد يؤدى فيها القنوت (الدعاء في صلاة الفجر)، وكان الإمام يترنم بسورة الأنفال وآياتها المؤثرة في نفوس شباب غرٍ طري لا يعي معاني «الجهاد» ولا أحكام الفقه الأولية، ولا يستحضر أيًا من معاني وأحكام ومقاصد الإسلام، ولا يعي أي معنى من معاني الفقه أو الأصول أو القواعد الفقهية، بيد أن التأثير المركز في تلك السورة، وظرف البيئة في فجر ذلك اليوم في المسجد، وبكاء المريدين من طلبة الكلية في صلاة الفجر في ذلك اليوم، ومن ثَم أثر دعاء ذلك الطالب الذي يؤم أولئك المريدين وربطهم بخالقهم عن طريق واقع «لم يتأسس على فكر صحيح»، وساقهم هذا الطالب إلى نبذ الدنيا بما فيها، والتخلي عنها وخلع كل شيء من تلك النفس المتطهرة حتى علاقتها بعائلتها، فقد تصورت أنها راغبة وجامحة للوصول إلى جنات عدن التي سمعت الإمام يترنم بها، فأصبحت تلك النفس ذات الإيمان الطهوري راغبة في تقديمها في مقابل الجنة، فقررت أن تذهب وتهاجر في سبيل الله – إلى أفغانستان - وباعت كل ما تمتلك من متاع الدنيا، ووجدت التسهيلات للذهاب إلى أفغانستان. وكانت صادقة في مرادها، بيد أن الصدق ليس سبيلاً ولا طريقًا صحيحًا لنفس لمّا تمتلئ بالعلوم والمعرفة، وترتكز على مصادر معرفية كي يرتقي عقل تلك النفس إلى الرؤية الحقيقية للأمور، والتصورات الأساسية لمعرفة كيفية الرؤية للنص الديني، ومعرفة تأويله وماهية الفهم، للوصول إلى تفسير مقارب للرؤية لواقعها.
إنها رؤية حقيقية وتشريح معاصر لكيفية تعامل تلك الأحزاب السياسية المتطرفة مع النصوص، وإقحام كل شاب غرّ طري في طريقة ومسار تعاملهم مع نصوص الجهاد، وسور القرآن الكريم التي تتطلب من علمائنا وفقهائنا وكل من هو مسؤول عن فكر الشباب، أن يُعيد النظر في كيفية فهم تلك النصوص، وطريقة تفسيرها حتى لا تتكرر هذه المشاهد، بيد أنه لا وجود لأفغانستان.