نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

فلسطين.. تجاوز الفصائل

أظهرت الأحداث العنيفة والدامية، التي اجتاحت ولا تزال القدس وسائر أنحاء الضفة الغربية، جملة من الحقائق كانت غائبة بفعل التعود على أدوات الماضي و«عناوين قوى». وما أقصده بالماضي وعناوين قوى هو الختم شبه الأبدي الذي طبع الحياة السياسية الفلسطينية في زمن منظمة التحرير، والذي يمكن أن يسمى كذلك «زمن الفصائل».
كان مبررًا في ما مضى أن تستولي الفصائل، بصرف النظر عن أحجامها وفاعليتها الحقيقية، على واجهة العمل السياسي الفلسطيني، وأن تتحكم بقراراتها عبر الإطارات التي فصلت تماما على مقاسها. لم يكن الفلسطينيون ليعترضوا على هذا، فقد كانت الفصائل تتسلح ببندقية احترمها الفلسطينيون، وتعلن أهدافا يتبناها الجميع، وتقدم تضحيات لا يقوى أحد على نكرانها.
ظل هذا الوضع قائما عقودا من الزمن، كان الفصيل الأكبر (فتح) مرتاحا بهذه الصيغة، ومستفيدا من واقعها سواء كان بعضها في موقع المعارضة أو الموالاة، وحين دخلت حماس كفصيل سياسي على الخط، تراجع دور الفصائل الصغيرة، وعاش الفلسطينيون سنوات تحت قطبين متنابذين، وأفرزت هذه المرحلة ما نراه الآن من انقسام أفقي وعمودي شكل نكبة موازية لنكبة عام 1948، إضافة إلى أنها هرّبت كل الإنجازات الوطنية الفلسطينية، وجعلت من المفاوضات والقتال مجرد أعمال لا مردود لها، أي إن المردود كان عكسيا.
استقر الوضع في غزة تحت حكم حماس، حيث الحرية النسبية للتسلح وحفر الأنفاق وإطلاق الصواريخ حين اللزوم ووقف إطلاقها حين اللزوم أيضا، وأسست إسرائيل لمعادلة قيد التنفيذ الآن قوامها: «الهدوء يقابل بشاحنات التموين، والتصعيد يقابل بـ(F16)».
أمّا في الضفة حيث الاحتلال الإسرائيلي يضرب الاعتدال الفلسطيني على رأسه كل يوم، ولا يتوانى عن إظهار عجز السلطة عن قيامها بأبسط مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني، عاملا كل ما باستطاعته كي تظل السلطة مجرد جهاز خدمات يتنفس من رئات التسهيلات الإسرائيلية، وينفق من هبات وعطايا المحسنين من كل أنحاء العالم، فإنه وضع لا يستقيم شعبيا، خصوصا حين تمعن إسرائيل في سياساتها على نحو يقول للفلسطينيين: لا أمل لكم بأكثر مما أنتم فيه.
قدرات السلطة في رام الله على إعادة الاعتبار لنفسها كمحطة توصل إلى الدولة، تراجعت على نحو جعل كثيرا من الفلسطينيين يقولون: إذن ما هو لزومها؟ والحال ذاتها في غزة؛ إذ يقول معظم الفلسطينيين هناك: ما فائدة حماس وشعاراتها ووعودها ونحن نشرب الطين؟
هذه الحالة أفرزت تفككا مروعا في الحالة الفلسطينية، والتهمت كثيرا من مصداقية القوى السياسية والرهانات الشعبية عليها، ذلك أن المواطن العادي يعتمد في ولائه أو عدمه على مقياس بسيط ولكنه بليغ: «ما الذي استفدناه على الصعيد الفردي والعام الوطني؟»، وحين يهبط منسوب المستفيدين وفق هذا المقياس، يبدأ الجمهور دون تخطيط في التفتيش عن بدائل وخيارات قد تكون أكثر فاعلية، وهنا بدأت بالظهور مبادرات معزولة تماما عن تنظيم وتوجيه القوى السياسية صاحبة الختم الأزلي، أي إن ظاهرة شعبية بامتياز بادرت إلى الفعل الذي يبدو تلقائيا، وهذه الظاهرة إن لم تكن بقوة الفعل الفلسطيني في زمن الفصائل، فهي الأعمق في المدلول والأصعب في المعالجة، فمع من سيتحدث الوزير كيري مثلا حين يأتي إلى رام الله؟ بالتأكيد سيجتمع مع صديقه محمود عباس، وسيسمع الكلام نفسه الذي سمعه في نيويورك، إلا أنه لن يخرج بما يوقف الظاهرة، وهنا يمكن أن يخطر ببال كيري أن يلتقي بأولياء الأمور في المدن والقرى لعلهم يمنعون أولادهم من فعل ما يفعلون.
هذا واحد من أهم الاستخلاصات المنطقية للأحداث الجارية الآن، وهو استخلاص أقرّ به محتكرو الواجهة من الفصائل، وأقرّ به جنرالات إسرائيل الذين أعدوا جيشهم وقوى أمنهم لحرب أشباح لا تكاد ترى. وحالة من هذا النوع قد تستمر إلى ما لا نهاية، ما دامت كل أدوات فعلها متوفرة عند الجانبين.