د. محمد علي السقاف
كاتب يمنى خريج جامعتَي «إكس إن بروفانس» و«باريس» في القانون والعلوم السياسية والعلاقات الدولية حاصل على دكتوراه الدولة في القانون عن منظمة «الأوابك» العربية من السوربون ماجستير في القانون العام ماجستير في العلوم السياسية من جامعتي باريس 1-2. له دراسات عدة في الدوريات الأجنبية والعربية والعلاقات العربية - الأوروبية، ومقالات نشرت في صحف عربية وأجنبية مثل «اللوموند» الفرنسية. شارك بأوراق عمل في مراكز أبحاث أميركية وأوروبية عدة حول اليمن والقضايا العربية. كاتب مقال في صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

علاقة العرب أقرب من علاقة أوروبا بالصين... لماذا؟

استمع إلى المقالة

في مقالنا الأخير الذي تساءلنا فيه حول ما الفارق في علاقة أوروبا والعرب بالصين ببعديها الجيو - سياسي والاقتصادي سنبين في مقالنا هذا الأسبوع العوامل والأسباب التي تدعو العرب أقرب في علاقتهم نحو الصين من علاقة أوروبا بهم، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن العرب والصينيين في علاقاتهم المشتركة يضعون أوروبا في مسافة بعيدة عن مصالحهما الحيوية في الحاضر والمستقبل، وإن بدا في بعض الجوانب حرصهم على أن تكون هذه العلاقات تختلف نوعياً عما كانت عليه عبر التاريخ المعاصر.

الخلفيات التاريخية في علاقة الصين مع بريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى تؤثر بشكل أو آخر على مسار العلاقات الأوروبية - الصينية. وأحد مظاهر مسار تلك العلاقات تمثلت في عودة هونغ كونغ خلال عام 1997 إلى الصين بإنهاء بريطانيا هيمنتها عليها، وكذلك استعادة الصين ماكاو من البرتغال في العام نفسه. ومن حسن الطالع أن العلاقات العربية الصينية لم تشُبها علاقات ذات طابع استعماري - إذا جاز لنا التعبير - كما كانت عليه في العلاقات الصينية الأوروبية. بل يمكن القول إن الذاكرة العربية يجمعها مع الصين تاريخ مشترك من ناحية هيمنة كل من بريطانيا وفرنسا في إطار إمبراطوريتها على قطاع واسع من الدول العربية. وبذلك يلقى خطاب الصين الموجه للعالم العربي صدى إيجابياً لكونها تعدُّ نفسها جزءاً من العالم الثالث، وفق التعبير الشهير للزعيم الصيني ماو تسي تونغ الذي قال فيه «إن رياح الشرق ستحل محل رياح الغرب»!

فعلى مستوى العلاقات الدبلوماسية العربية مع الصين الشعبية بدأت منذ أكثر من سبعة وستين عاماً، حيث تصدرت مصر في علاقتها مع الصين في مايو (أيار) 1956 تبعتها ست دول عربية أخرى (سوريا والعراق واليمن والمغرب والجزائر والسودان)، وأقامت معها علاقات دبلوماسية رسمية قبل أي دولة أخرى في منطقة غربي آسيا وكل قارة أفريقيا (وفق موقع «الصين اليوم») ثم جاءت السعودية لتقيم العلاقات الدبلوماسية مع الصين الشعبية في يوليو (تموز) 1990. وكما سنلاحظ لاحقاً أن العلاقات التجارية بين الصين والسعودية كانت قائمة قبل التبادل الدبلوماسي بينهما.

في الخامس والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1971، عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 2758 الذي ينص على الاعتراف بالصين الشعبية الممثل الشرعي الوحيد للصين في الأمم المتحدة، كانت 12 دولة عربية لديها بالفعل علاقات دبلوماسية مع الصين الشعبية، وكانت الجزائر والعراق وسوريا، والجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والسودان وموريتانيا والصومال في مقدمة الدول الـ23 التي تقدمت بمشروع القرار رقم 2758. وبذلك كان للدول العربية المذكورة الفضل الكبير والدور المؤثر في استعادة الصين الشعبية كامل حقوقها القانونية في الأمم المتحدة. وفي الحقيقة كانت الصين من جانبها سباقة من منطلق مكافحة «الإمبريالية الاستعمارية الغربية»، التي كانت تطلق على الدول الغربية وقفت مواقف داعمة للقضايا العربية وحركات التحرر العربية، حيث أدانت العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وكانت أول دولة غير عربية تعترف بقيام الحكومة المؤقتة للجزائر في عام 1958 كما أنها كانت أول دولة غير عربية اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، قابله دعم عربي للصين في المحافل الدولية. ومقابل تلك الاعترافات العربية بالصين الشعبية كانت تصف غربياً تأييدها لها بأنها في المجمل كانت من قبل دول الكتلة الشيوعية ودول العالم الثالث، متناسين بذلك أن بريطانيا كانت أول دولة غربية اعترفت بالصين الشعبية في الخمسينات، كما كان اعتراف فرنسا «الديغولية» بالصين الشعبية في 24 يناير (كانون الثاني) 1964 والذي تم تبرير تأخرها نسبياً إلى تداعيات حرب فرنسا في فيتنام، وحرب الولايات المتحدة في كوريا في الخمسينات حتم تضامنها مع حليفتها الرئيسية في العالم الغربي. ولهذا عند انتهاء تلك الظروف أراد الجنرال ديغول التأكيد على استقلالية القرار الفرنسي عن الولايات المتحدة التي صدمت من اعتراف ديغول بالصين الشعبية في عز ظروف الحرب الباردة. والفارق هنا أن بريطانيا وفرنسا باعترافهما المبكر بالصين الشعبية كانت لهما نظرتهما الاستباقية والاعتراف بواقع العالم كما هو، وفق تعبير ديغول نفسه في تفسير قرار الاعتراف.

خلافاً لتلك الواقعية فإن هنري كيسنجر الذي كان وراء انفتاح علاقات الولايات المتحدة نحو الصين الشعبية في عهد الرئيس نيكسون تبنى موقفاً غريباً في مقابلة مع صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية حين قال إنه يجب على الغرب «إيجاد مكان» لأوكرانيا ومكان لروسيا إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا موقعاً أمامياً للصين في أوروبا، ومن جهة أخرى أشار كيسنجر إلى أنه من الضروري الاعتراف بحقيقة أن أحداثاً كبيرة قادمة في العلاقات بين الشرق الأوسط وآسيا من ناحية، وأوروبا والولايات المتحدة من ناحية أخرى. من جانب آخر صرح مدير وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) ويليام بيرنز بأن روسيا ستصبح شريكاً صغيراً ومستعمرة اقتصادية للصين بسبب أخطاء بوتين حسب قوله! مما نفسره وكأنه بذلك يتوافق بشكل ما ذكره كيسنجر للصحيفة البريطانية. وهل مثل هذه التصريحات تتضمن أيضاً رسائل موجهة للدول العربية التي تنمو علاقاتها بشكل واسع ومنتظم مع الصين، إذا صح ذلك التفسير ألا يعني أن على الدول العربية أن تدرك أن علاقاتها بالصين لا تعني بالضرورة إهمال تعاملها مع الدول الأوروبية والغرب بصفة عامة.

وللحديث بقية.