كثيراً ما يتم تداول عبارات مثل: استخدم عقلك، لا تسلم عقلك للآخرين، العقل يقول... إلخ. عبارات براقة توحي بأن الشخص يحتكم للعقل ويرفض الانقياد خلف القطيع من خلال فحص ما يقرأ ويسمع ليحدد موقفه منه. هذا بحد ذاته طرح يبدو إيجابياً ويدغدغ مشاعر المتلقين، لا سيما الشباب منهم، ولكن ثمة إشكالية مهمة تتلخص في كون غالبية الناس - على اختلاف توجهاتهم الفكرية - يدّعون تحكيم العقل؛ ما يوحي بأن العقل المزعوم ليس شيئاً واحداً. وهنا يكمن السؤال: ما مرجعية ذلك العقل؟ وبعبارة أدق: ما أساس مصداقية العقل المُشار له؟
إن العقلانية بمعناها الفلسفي تتلخص في كونها «تحكيم المنطق بوصفه مرجعية للمعرفة والتبرير». المنطق الذي تطرحه الفلسفة يحدد آليات العلم التجريبي - المادي والقواعد التفسيرية للأمور المعنوية والماورائية. ويهيمن المنطق بمعناه الأرسطي على معظم حقول المعرفة، وهذا في حد ذاته ضرب من التسليم لأرسطو الذي تتلمذ على أفلاطون تلميذ سقراط، بمعنى أن المنطق الذي يحكم العلم الحديث قائم على أفكار فلاسفة اليونان قبل ستة قرون.
كل من جاء بعد أرسطو يقتات على مائدته بشكل أو آخر، وهذا ليس عيباً في حد ذاته، بل نقطة للتذكير بمفهوم العقل الذي يُحترم وهو القائم على منطق ذي قواعد واضحة المعالم يمكن نقاش أصل تكوينها كقواعد للحكم على الطرح وكونه مقبولاً علمياً أم لا. وفي هذا الصدد، نذكر أن حتى علماء اللاهوت من مختلف الديانات يبنون محاججاتهم واستدلالهم على عقائدهم على أسس المنطق الأرسطي، بما في ذلك المسلمون والمسيحيون.
من خلال ما سبق، نستوضح العقل الذي يجب الاحتكام إليه، وهو يختلف عن العقل المتصور لدى الكثير ممن ينادون بـ«تحكيم العقل»؛ فالعقل عند هؤلاء هو المسلمات المزروعة داخلهم من دون استدلال واضح. والمقصود بالاستدلال هنا «سبب القبول بالفكرة» وكيفية طرحها للآخر الذي قد يختلف معنا في المعتقد، سواء الديني أو السياسي أو الثقافي.
من خلال متابعة النقاشات في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لفتت نظري ضبابية مفهوم العقل الذي يطلب عامة الناس الاحتكام إليه. للأسف، فإن كثيراً ممّن يطالبون بالاحتكام للعقل وينبذون تبني أفكار الآخرين، عادّين ذلك تسليماً للعقول وانقياداً أعمى، لا يتعدون في حقيقتهم كونهم مسلمين للآخرين بشكل أو آخر! فلكل فكرة مقدمات تعدّ الأساس المنطقي الذي قامت عليه، وعند نقاشها سنصل للقاعدة المنطقية التي أسستها، والتي غالباً لن تخرج عن المنطق الأرسطي. وبالتالي، فالناس عيالٌ على أرسطو وإن أنكروا هذا.
وحتى من يعيبون على المتدينين تسليمهم للنص، فإن علماء الكلام المسلمين واللاهوتيين المسيحيين واليهود استخدموا المنطق الأرسطي للاستدلال على عقائدهم الأساسية؛ والتي رسّخت فكرة تقديس النص الديني بوصفه حتمية لتعلم الأخلاق العامة وقواعد التعامل اليومي التي تحكم تفكير المؤمنين بالعالم الذين يعيشون فيه وعالم ما وراء الطبيعة (الآخرة). في هذا الصدد، يكون الاختلاف محصوراً في تفسير النص وليس في أصل النص الذي تم إثباته من خلال المناقشة العقلية المبنية على المنطق الأرسطي. وغني عن القول، أن من يقوم بالنقاش العقائدي هم المتخصصون في علم الكلام أو اللاهوت الذين يسلّم لهم الناس بناءً على انتمائهم الاجتماعي للجماعة الدينية. بل إن من يصل للإيمان العقائدي بنفسه - من غير المتخصصين - هم الأقلية مقابل الغالبية الذين اكتسبوا دينهم من القيادات الدينية لمجتمعاتهم.
هذا بالضبط ما ينطبق على من يتبنون آيديولوجيات غير دينية، سواء شيوعية أو فردانية مطلقة، فهم يستندون إلى أقوال فلاسفة اطمأنوا لطرحهم وقبلوه. بالتالي، ليس لأحد الحق في السخرية من «الآخر» من دون محاولة فهم المقدمات التي أفضت به إلى هذه وتبني أفكار - مواقف بعينها. ويمتدّ هذا ليشمل الدارسين لمختلف التخصصات العلمية التطبيقية، فمن يدرس الهندسة لأربع أو خمس سنوات، لن يتجرأ على طرح «هواجسه» مقابل النظريات والمعادلات الحسابية التي يدرسها؛ لأنه يعلم أن الوصول إلى التشكيك في مصداقيتها يحتاج إلى بذل جهد يتجاوز مرحلته الدراسة. فطالب العلم الحقيقي يسأل ليتعلم، ويطرح إشكاله ليستوضح، ويتبعه بسلسلة إشكالات حتى تتضح له الأمور؛ ولا يصل لمرحلة انتقاد المفاهيم قبل استيعابها.
إن مهاجمة الآخرين بأسئلة تبدو بديهية، مثل: أليس لديك عقل؟ هل يقبل العقل بهذا؟ يعد - في غالب الأحيان - جناية على العقل نفسه. فالأمور البديهية المثبتة بالمنطق والعلم تظل صادمة في وجه المهرطقين ما دامت محاطة بسياج من الاحترام الذي يعزلها عن الأهواء والأمور غير الثابتة والتي يحاول أصحابها وضعها في مصاف الحقائق المجردة أو المثبتة علمياً.
خلاصة القول، أن العقل جهاز يعالج البيانات المُدخلة فيه، وكلما كانت البيانات واضحة ومتينة، انعكس ذلك على ثراء العقل، والعكس صحيح. كذلك، فإنه ليس ثمة عقل حر بالمطلق، فكل العقول تتعامل مع بيانات تم تأسيس أُطرها وفقاً للمناهج الفكرية والعلمية التي بُنيت عليها ذاكرتها.