عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

«إعلان جدة»: القيادة السعودية للجامعة العربية

استمع إلى المقالة

القمة العربية الثانية والثلاثون التي انعقدت في جدة السعودية هي قمة تختلف عن سابقاتها، عبر تاريخ الجامعة العربية الممتد منذ منتصف الأربعينات الميلادية مع كل ما مرت به من مراحل وأدوار وتوجهات وآليات سيطرت على الجامعة عقوداً من الزمن.

السعودية سعت منذ سنوات، وبقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى وضع رؤية واضحة لمستقبل البلاد هي «رؤية 2030» ببرامجها المساندة ومبادراتها المتواصلة، وقد حققت كثيراً من الإنجازات قبل الموعد بسنواتٍ، وهي إنجازاتٌ شهد لها الجميع، ثم عملت بجدٍ على إعادة تفعيل «مجلس التعاون الخليجي» وتجاوز الخلافات التي كانت قائمة، ومنح فرصة لمستقبل أفضل لدول المجلس، والتطورات في هذا السياق معروفة.

«قمة جدة العربية» هي رفع للسقف بعد التطوير الداخلي والخليجي إلى مستوى العالم العربي دولاً وشعوباً، حكوماتٍ ومجتمعاتٍ، وسبق للأمير محمد بن سلمان أن تحدث صراحة عن رؤيته للمنطقة وأنها ستكون «أوروبا الجديدة»، وتحدث بتفاصيل عن كثير من الدول العربية بأسمائها وإمكان إسهامها في هذه الرؤية، كلّ بحسبه وضمن رؤية تنشد التكامل والشمول وتراعي المصالح كأولوية للجميع.

«عودة سوريا» مؤشرٌ مهمٌ على نجاح هذه القمة، وسيتبعه التزامات سورية بحلولٍ خلاقة لمشكلاتها الداخلية والإقليمية والدولية ستحظى بدعمٍ سعودي وعربي ضمن حزمة من الإجراءات والآليات التي تضمن مستقبلاً أفضل لبلادٍ مزقتها الحرب الأهلية والتدخلات الأجنبية، وباتت دون أفقٍ مستقبلي واضح، وبقيت فلسطين أولوية وتناولت القمة المسائل الملحّة، كالأزمة السودانية واليمنية وتعرضت للبنان وغيرها، وركزت على استقرار الدول، ورفض التدخلات الأجنبية و«الميليشيات» المسلحة.

تأكيد مهم جاء في «إعلان جدة» يحمل لغة جديدة وأولويات مهمة تشير إلى الانتقال التاريخي من لغة الشعارات والمزايدات، إلى لغة التنمية والمصالح، حيث يقول: «نؤكد على أن التنمية المستدامة، والأمن، والاستقرار، والعيش بسلام، حقوق أصيلة للمواطن العربي، ولن يتحقق ذلك إلا بتكاتف الجهود وتكاملها، ومكافحة الجريمة والفساد بحزم وعلى المستويات كافة، وحشد الطاقات والقدرات لصناعة مستقبل قائم على الإبداع والابتكار ومواكبة التطورات المختلفة، بما يخدم ويعزز الأمن والاستقرار والرفاه لمواطني دولنا»، هذه مفرداتٌ تحكي أولويات المرحلة الجديدة من عمل الجامعة العربية ضمن رؤية السعودية وقيادتها الحكيمة.

رؤية ولي العهد السعودي في أولوية الاقتصاد والتنمية والاستفادة من كل الموارد المتاحة والإمكانيات الكبيرة بدأت تتجلى في العمل العربي المشترك، وبدلاً من النزاعات والصراعات فإن هذه الأولويات الجديدة يمكن أن تجمع كل الدول وتسعد كل الشعوب في العالم العربي، وهي شعوبٌ سئمت من الشعارات والمزايدات، وتحتاج إلى الخطط العملية والتنفيذ المحكم والترقي في مدارج الكمال الإنساني.

لقد باتت «الجامعة العربية» تشبه بعض المنظمات الفاعلة على المستوى الدولي، في المبادئ والأولويات كما في المظاهر والآليات؛ في الأولويات جاء الحديث عن «الرفاه» كإحدى مهام الدولة المهمة في بيان عربي رسمي هو «إعلان جدة»، وفي الآليات أصبح الوقت مهماً وكلمات القادة موجزة وعملية وواضحة عوضاً عن فتراتٍ سابقة كانت الكلمات تمتد خطباً طويلة ومليئة بالشعارات وبعيدة عن العمل.

دولياً، فأكثر الأزمات الدولية سخونة هي الحرب الروسية - الأوكرانية، ولم يأتِ من فراغٍ أن يخاطب الرئيس الروسي القمة العربية في جدة، وأن يأتي الرئيس الأوكراني لحضورها شخصياً، وقد تم ذلك لأن السعودية أصرَّت على الحياد تجاه تلك الأزمة الدولية الخطيرة، وشقت طريقاً دولياً رفض سياسات الاستقطاب الحادة التي هددت العالم والمؤسسات الدولية، كما أنها قادت عملياً الحفاظ على الحلفاء التقليديين الكبار، وبنت علاقاتٍ متينة مع الدول الكبرى في العالم، وتمكنت من فرض مصالحها ومصالح الدول العربية على الجميع.

في ظل التوازنات الدولية السابقة لم يكن ممكناً بناء تفاهمٍ مع إيران، ولكنه تم برعاية وضمانة صينية قادرة على إلزام الأطراف بمواقفها المعلنة وسياساتها العملية، وقد تم ذلك بعد بناء علاقات استراتيجية متينة بين السعودية والصين في المجالات كافة، وبعدما حدث هذا أصبح بالإمكان الحديث عن تهدئة في الدول والأزمات والملفات الساخنة في المنطقة، كما جرى في العراق وسوريا واليمن.

السعودية تصنع التاريخ في المنطقة والعالم، وهي تصنعه بإشراك الجميع في الرؤى والمصالح والغايات، وتصنعه بالتحالفات والتفاهمات والاتفاقيات التي تراعي كل الظروف والمعطيات بعيداً عن الشعارات والمزايدات، وهذا ما لا يرفضه عاقلٌ مهما كانت توجهاته السياسية أو شعاراته المعلَنة.

في الأزمة اليمنية حضرت «الإمارات» بقوة وتحضر «عمان» في التفاهمات الحالية، وفي «التحالف العربي» حضرت «مصر» و«الأردن»، وفي التفاهم مع إيران حضرت «العراق»، وفي الأزمة السودانية حضرت «مصر» و«الإمارات» و«أميركا»، والفرقاء السودانيون يتفاوضون في «جدة»، والموقف من تدخلات الدول الإقليمية في الدول العربية بدأ يتجه بقوة نحو إجماعٍ عربي في طور التشكل، والموقف من «الميليشيات» المسلحة بدأ يأخذ رفضاً قوياً، وهكذا في سلسلة سياسات واستراتيجيات تأخذ برقاب بعضها نحو مستقبل أفضل للمنطقة بأسرها.

إن هذا العمل الاستثنائي والتاريخي الذي تقوم به السعودية في قيادتها للعالم العربي وللتأثير الحكيم والذكي في توازنات القوى إقليمياً ودولياً أصبح محل إجماع وتقدير دوليين، وأصبح من مصلحة الفرقاء الإقليميين التعايش معه بدلاً من محاربته أو معاداته، ويشهد الجميع كيف تم التعامل مع هذه المشاريع في المنطقة وحلها ضمن سياقاتٍ نزعت ألغام الخلافات ومهَّدت الطريق لتوافقاتٍ سياسية فاعلة.

هذا العمل السعودي المتكامل يحتاج لعمل موازٍ يشرح أبعاده ويرصد استثنائيته ويسجل تاريخيته إعلامياً وثقافياً وأكاديمياً، وهو ما لم يتم شيء منه على الوجه المطلوب بعد، مع الاعتراف بالجهود المبذولة في هذا الاتجاه، وحاجتها إلى التطوير والرؤية الجامعة.

لدى السعودية قوة هائلة على مستوى اليومي والآني في الدفاع عن سياساتها ومواقفها ومشاريعها وهو شأن بالغ الأهمية، ولكن شرح الاستثنائية والتاريخية التي تجري اليوم باتساعها وشمولها وسرعتها شأن آخر يختلف عن هذا المجال.

أخيراً، ففي «إعلان جدة» قال العرب كلمتهم: «نثمن حرص واهتمام المملكة العربية السعودية بكل ما من شأنه توفير الظروف الملائمة لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي في المنطقة، وخصوصاً فيما يتعلق بالتنمية المستدامة بأبعادها الثقافية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية».