رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

نكبة فلسطين المستمرة منذ 75 عاماً

استمع إلى المقالة

في اليوم ذاته الذي يحتفل فيه الاحتلال الإسرائيلي بيوم «الاستقلال» وإعلان الدولة (15 مايو/ أيّار)، يحيي العرب والفلسطينيون ذكرى «النكبة»، وهي نكبة فلسطين وأهلها المستمرة منذ 75 عاماً، وهي تُشكّل بحد ذاتها فضيحة سياسيّة وأخلاقيّة وقانونيّة بكل المقاييس.

لا يمكن القبول بفكرة اقتلاع شعب من أرضه، وتهجيره بالقتل والتدمير الممنهج، ومن ثم الاستيلاء على الأرض والاستيطان فيها عنوة دون الاكتراث لأي مواثيق دوليّة أو قوانين أو أعراف، لا بل الذهاب نحو تزوير التاريخ وإعادة صياغته وفق روايات ملفقة ترمي إلى حرف المسار بما يتناسب مع رؤية الاحتلال ومشروعه التوسعي.

إن أي قراءة منصفة للتاريخ حاسمة في أن ما حدث في فلسطين في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي ينطبق عليه تماماً توصيف «التطهير العرقي» من الناحيتين العلميّة والعمليّة، وهذا ليس وصفاً عاطفيّاً، بل هو مدعّم بالسلوكيّات الميدانيّة التي حصلت على أرض فلسطين، وأفضت إلى وقوع «النكبة» وقيام الكيان الإسرائيلي.

الدراسات التاريخيّة «الموضوعيّة» أثبتت تماماً الخطط الصهيونيّة للتطهير العرقي في فلسطين، بحيث كشفت المعلومات عن خطة بارزة وُضعت في العاشر من مارس (آذار) 1948 من قبل مسؤولين صهيونيين قدامى وضباط وناشطين؛ خطة متكاملة للتطهير العرقي بهدف السيطرة الكاملة على أرض فلسطين التاريخيّة، وليس حتى تقاسم الأرض بين دولتين، كما نص القرار 181 الصادر عن الأمم المتحدة في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947.

ويشير المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه (وهو مناهض للصهيونيّة) في كتابه الشهير «التطهير العرقي في فلسطين» (مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، بيروت، 2022) إلى أن الأوامر أرفقت «بوصف مفصّل للأساليب الممكن استخدامها لطرد الناس بالقوّة: إثارة رعب واسع النطاق؛ محاصرة وقصف قرى ومراكز سكانيّة؛ حرق منازل وأملاك وبضائع؛ طرد؛ هدم (بيوت ومنشآت)؛ وأخيراً، زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم (...)». (ص 2)

إنه أسلوب العصابات الإجراميّة وليس أسلوب نشوء الدول التي تدّعي الديمقراطيّة. ولكن أن تمارس العصابات الإرهاب، فهو مفهوم لأنه أحد الأسباب التي تُشكّل من أجلها، ولكن أن تمارس «دولة» ما الإرهاب نمطَ حكم وسيطرة وسطوة سياسيّة وعسكريّة وميدانيّة، فذلك له قراءات أخرى وحسابات مختلفة.

ولعل ما هو مثير للاشمئزاز يتعلق بتغاضي المجتمع الدولي على مدى عقود عن كل تلك السلوكيّات، لا بل تغطيتها والدفاع عنها وتوفير الغطاء لها عندما يلزم الأمر، وأبعد من ذلك محاسبة ومحاصرة أولئك الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة والمحقة في قيام الدولة المستقلة وعودة اللاجئين، ووصفهم بالإرهابيين!

ولكن، إذا كان هذا المنطق المريض هو السائد في الساحة الدوليّة، والمكرّس بالتحالفات والحسابات المصلحيّة وموازين القوى؛ فإن الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني، وفق منطلقات جديدة تعيد الاعتبار للتفاهم على المعيار الأساسي المتمثل بمواجهة الاحتلال وتوحيد الرؤية حول كيفيّة القيام بذلك بما يحقق الهدف المنشود، ألا وهو قيام الدولة الفلسطينيّة المستقلة بعد عقود من النضال.

واضح أن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة تعاني من انقسام كبير وحاد حول الأهداف والأساليب ووسائل العمل، وأنها عاجزة عن توحيد صفوفها بسبب اعتبارات عديدة ومتناقضة، وغالبها لا يقع حتماً في صف المصلحة الوطنيّة الحقيقيّة. وهذه خسارة جسيمة يستفيد منها الاحتلال الإسرائيلي على كل المستويات ويوظفها لمصلحته.

وواضحٌ أيضاً أن الفجوة القائمة راهناً بين نضالات الشعب الفلسطيني وتضحياته الجسيمة في مواجهة الاحتلال، وبين سلوكيّات الجهات الفلسطينيّة المختلفة، هي فجوة عميقة يتطلب ردمها الكثير من الجهد لمواجهة مشروع الاحتلال الإسرائيلي المستمر من دون تعديل في ممارساته القمعيّة للشعب الفلسطيني دون تمييز ودون ردع.

في ذكرى «النكبة» المستمرة، لا مفر من صياغة مشروع وطني فلسطيني جديد يعيد الحقوق المهدورة، ويعطي أملاً للأجيال الجديدة من الشباب الفلسطيني والعربي، الذي يحلم بقيام الدولة الفلسطينيّة المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين إلى ديارهم.