ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

شكوى ابن البلد

منذ سنوات كثيرة، تنوف على الخمسين، أجريت حديثاً لمجلة «الصفحة الأولى» الأرجنتينية مع جيمس بالدوين. وعندما قرأت المقال منشوراً شعرت بخجل لا يوصف، وقطعت عهداً على نفسي بعدم إجراء مقابلة مع أي كاتب قبل قراءة بعض أعماله، كما فعلت بصورة غير مسؤولة مع بالدوين. وفرضت على نفسي يومها، كعقاب، أن أقرأ الأعمال الكاملة، من روايات ومقالات، لهذا الكاتب الأميركي الذي أعده من بين أفضل الكتّاب في الولايات المتحدة، ناقداً شرساً لبلده، وإن كنت لا أضعه في مصاف فوكنر أو همنغواي، بل بعدهما مباشرة في عداد كبار الروائيين والنقّاد الذين أنتجتهم تلك البلاد. كان من أثقب الذين انتقدوا المجتمع الأميركي، ولا سيّما ما خصّ «المشكلة الزنجية»، عاش سنوات طويلة في فرنسا، لكنه كان دائماً مهووساً بذلك الموضوع حيث إنه لم ينقطع أبداً عن الكتابة حول بلاده طوال السنوات التي عاشها في المنفى. في ظنّي أن أفضل رواياته هي «بلد آخر» التي تدور أحداثها في نيويورك، حيث يصف بمنتهى البراعة علاقة عاطفية بين امرأة زنجية ورجل أبيض يميل هو إلى الإعجاب به. وخلال وجودي مؤخراً في ميامي دخلت إحدى المكتبات واشتريت نسخة جديدة من روايته «ملاحظات ابن البلد» التي صدرت للمرة الأولى عام 1955. وقد دفعتني قراءة هذا الكتاب إلى البحث عمّا إذا كانت توجد في الولايات المتحدة جمعيات للزيجات المشتركة بين البيض والسود، ليتبيّن لي أن ثمّة اثنتين في الأقلّ وتضمّان عدداً كبيراً من الأعضاء.
أجمل ما في هذه الرواية تلك الصفحات التي يصف فيها الكاتب الأيام العشرة التي أمضاها في أحد سجون باريس بسبب سرقته غير الطوعية «بطانيّة» وضعها فوق سرير غرفة الفندق حيث كان يقيم. في تلك الصفحات الرائعة من الكتاب ما يشبه الإدراك الواعي بأن الانتقادات اللاذعة ضد الولايات المتحدة، في القسم الأول منه حول الزنجي الأميركي وعنصرية البيض، ضرب من المبالغة، وإلّا لما كان بالدوين يشعر بحنين جارف لمدينة نيويورك طيلة الأيام العشرة التي أمضاها في جحيم ذلك السجن الباريسي. والعبارات القاسية التي يزخر بها القسم الأول من الكتاب حول «الزنجي» الأميركي وسوء أحواله بسبب عنصرية البيض، فيها قدر كبير من المغالاة، لأن «التجارب» التي عاشها في نيويورك كان من المفترض أن تساعده على النهوض من الوضع الذي كان فيه. كل ما في ذلك النص يرقى إلى مرتبة الأدب الرفيع؛ دقّة التفاصيل، والسخرية اللاذعة عندما ينأى بذاته عن الحدث ليتمكن من وصفه بمزيد من الحرية والموضوعية، خاصة عندما يعترف، بخيبة ومرارة، أن العنصرية ليست وقفاً على الولايات المتحدة، بل هي موجودة أيضاً في فرنسا موطن الحريات والمساواة.
لكن هل أصبحت أوضاع السود في الولايات المتحدة اليوم أفضل مما كانت عليه في السابق؟ لا يجرؤ أحد اليوم في أميركا الشمالية، حتى المقاطعات الجنوبية، على طرد زنجي بحجة «هنا لا نقدّم الطعام والشراب للسود» التي طالما سمعها جيمس بالدوين في مطاعم بلاده وحاناتها. أفضل الجامعات الأميركية اليوم تقدّم منحاً دراسية وتخصص مقاعد للطلاب السود، ما أتاح للرئيس الأسبق باراك أوباما وزوجته الدخول إلى هارفارد، وثمّة عدد لا بأس به من الأعضاء السود في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن عدد من كبار الصناعيين السود وأصحاب الثروات الكبرى. ومن بين أصحاب المليارات في الولايات المتحدة يوجد 6 من السود.
لكن في جملة القول لم يتحسّن وضع السود كثيراً عن الفترة التي يصفها بالدوين في هذا الكتاب الذي صدر كما ذكرت منتصف القرن الماضي. تكفي نظرة سريعة على شوارع المدن الكبرى، مثل نيويورك وشيكاغو، لنرى كيف أن السود يمارسون الوظائف الوضيعة كعمّال التنظيف، لندرك أن أحوالهم لم تتغيّر كثيراً عن تلك الفترة. وهنا لا بد من التساؤل؛ لماذا يسعى الملايين من أهل أميركا اللاتينية إلى العمل في الولايات المتحدة عوضاً عن البقاء في بلدانهم لبناء مستقبلهم؟ فالدخول إلى الولايات المتحدة يزداد صعوبة يوماً بعد يوم؛ فقد كان دونالد ترمب يتحدّث عن بناء جدار حصين يمنع عبور الحدود، وأن تتحمّل المكسيك تكاليفه، لكن جو بايدن قرر وقفه لأسباب كثيرة، من بينها ألا جدوى منه عملياً، لأنه لا شيء يمكن أن يقف بوجه الهجرة، ليس إلى الولايات المتحدة فقط، بل أيضاً إلى أوروبا الغربية، من أقصاها إلى أقصاها.
لماذا إذن يصرّ ملايين الأميركيين اللاتينيين على إيجاد فرصة عمل في الولايات المتحدة؟ هل ليصبحوا من أصحاب الملايين؟ قطعاً لا. أعتقد أن السواد الأعظم منهم يسعى وراء مستقبل كريم له ولأبنائه، لن يتمكّنوا أبداً من تأمينه في بلدانهم، حيث إن الذين يطلق عليهم «تشوليتوس»، أي أولئك الذين تعدّهم الأقلية البيضاء من درجة عرقية أدنى، لن يسمح لهم بذلك مهما بلغت ثرواتهم. مثل هذه الاعتبارات، كالاعتراف بقيم الفرد الذاتية في المجتمع، هو ما يتوق الأميركيون اللاتينيون إلى تحقيقه، فضلاً عن الاستقرار في العمل الذي يندر في بلدانهم بسبب من تقلبات الاقتصادات المتخلفة. كنا نعتقد أن تشيلي قد تجاوزت تلك المرحلة، لكن التطورات السياسية التي شهدناها هناك مؤخراً تدلّ على أن ذلك لم يكن سوى سراب لا علاقة له بالواقع.
إلى جانب ذلك، تبيـّن الإحصاءات التي عوّدنا عليها علماء الاجتماع أن محافظة البلدان الغنيّة على مستويات المعيشة المرتفعة فيها مرهونة باستمرار تدفق المهاجرين إليها. لذلك من المستحسن أن يكفّ الأوروبيون والأميركيون عن استهجان ظاهرة الهجرة والخوف من عواقبها، وأن يباشروا فعلاً بالتفكير في أنجع الطرق لتنظيمها.
شهد جيمس بالدوين النور في هارلم، في كنف عائلة شديدة التديّن، وكان مرشّحاً بحكم المحيط الذي نشأ فيه ليكون مبشّراً. وكان قد بدأ يستعدّ لذلك، وألقى عدة مواعظ، لكن مصيره وإرادته الذاتية دفعا به إلى عالم الأدب، ليصبح واحداً من أفضل كتّاب هذا العصر. وبالرغم من أنه لا يتحدث عن ذلك في هذا الكتاب الذي هو بمثابة سيرته الذاتية، فقد عاش سنوات طويلة في أوروبا، معتقداً بسذاجة أن القارة الأوروبية قد طوت صفحة العنصرية إلى أن اكتشف بذاته أن ذلك ليس صحيحاً في تلك القرية السويسرية الصغيرة التي قدّم له أهلها عدة مرات منزلاً ليعمل فيه. هناك رأى كيف كانوا يجمعون التبرعات لشراء زنجي أفريقي، أي متوحش، وتكليف المرسلين الكاثوليكيين تدريبه لاعتناق الدين المسيحي. وكان أطفال القرية، وبعض البالغين، يلمسون رأس بالدوين، الذي كان يسمح بذلك، ويندهشون لكون ذلك المخلوق يفكّر ويتكلّم بوضوح.
كان بالدوين من أفضل الكتّاب الأميركيين، ولا بد من المواظبة على قراءة رواياته ومقالاته الرائعة التي وضعها في مرحلة تميّزت باضطرابات سياسية عاصفة، أدلى كل الكتاب الأميركيين بدلوهم فيها. وفي جميع مؤلفاته قدر كبير من المرارة والألم لأنه يتحدث دائماً عن أمور حزينة يدور معظمها حول القضية العنصرية، رغم أنه في الظاهر يغلّفها بإطار لطيف وطريف أحياناً، كما الحال في هذا الكتاب الذي كان من بواكير أعماله.