خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

هكذا تكلَّم جعفر العمدة

ثم التقيت على مصعد الجبل بجعفر العمدة، وقد خلع عنه ثياب النجم، وارتدى ثياب العزلة، فقلت له يا معلم، ألا تحدثني حديثاً لا أسمعه من غيرك. قبل أن يجيب أوقفته بإشارة من يدي، أحجز لنفسي الحديث مستدركاً. بشرط، يا جعفر العمدة، ألا تعيد علي أياً من الحكم الرخيصة التي بعتها لعوام الناس. فأطرق، ومسح على رأسه، ثم قال: هذا حديث في الاقتصاد، فاسمع مني.
لم يقدم إسماعيل ياسين سينما متميزة بمعايير «الآرت هاوس». ومن وجهة نظر كثير من النقاد والجمهور، لم تكن كوميدياه علامة في تاريخ السينما. وكثير من أفلام فريد شوقي التي ظهر فيها شجيع السيما، أو من مشاهد بطولات عادل إمام الجسدية، لم تكن مقنعة على المستوى الفني. لكن الجماهير أحبت الثلاثة. وهذا الحب كان ذا فائدة عظيمة، لصناعة الفن بشكل مباشر، ثم لصنعته بطريق غير مباشرة. خلق أرباحاً للصناعة، فشجع على مزيد من الاستثمار فيها. وزيادة الاستثمار تعزز احتمال الجودة. كما يحدث في هوليوود.
الفارق بين صنعة الفن وصناعة الفن ضخم، لكنَّه خاف عن كثير من المعلقين على الفنون. صنعة الفن عمل حرفي. صناعة الفن قطاع اقتصادي.
الناقد الفني الذي ينظر إلى الأولى ويهمل الثانية مقصر في حق الصناعة، وبالتبعية مقصر في حق الصنعة، وهو يظن أنه مدافع عنها. وذلك عَرَض لمرض أكبر وأوسع من قطاع الفن. النخبة التي لا تملك ذهنية اقتصادية تقود التراجع المجتمعي من مظنة قيادة ترقيه. إذ الاقتصاد وقود المجتمع. إن أردت أن تحطم المهارات التنافسية لكائن فاعفه زمناً من ثقل التفكير الاقتصادي، ثم اتركه في ميدان منافسة. هذا بالضبط ما فعلت دول الكفالة في مواطنيها. في الحياة الطبيعية يتعلم الكائن مهارات البقاء بدافع من مسؤوليته الاقتصادية عن نفسه، كيف يؤمِّن بنفسه رحلة الحصول على غذائه.
النظرة الاقتصادية الربحية معنية بتشجيع القدرة على الاستدامة، والاستدامة ملعب تطوير المهارات، وتربية الكوادر، وجذب الجمهور. بهذا المعنى، فإن الذهنية الاقتصادية ليست فقط الطريق المجربة إلى اقتصاد أقوى، بل أيضاً إلى مجتمع أفضل في جميع الوجوه، فكراً وإنتاجاً وأخلاقاً. السينما في مصر نهضت على أكتاف اقتصاديين مثل طلعت حرب ومحمد بيومي. وهذا المشروع الذي دشنوه اقتصادياً أحدث أيضاً تحولاً فكرياً وثقافياً في مجتمعه، بدءاً من تشجيع الأغلبية المسلمة على خوض قطاع كان مقصوراً من قبل على المصريين اليهود والجاليات الأجنبية، وصولاً إلى انتشار الدراما المصرية إلى خارج حدود جنسيتها. في المقابل، فإن إدارة قطاع السينما بذهنية غير اقتصادية بعد تأميم الاستديوهات في بداية الخمسينيات أدت إلى تحوله بالتدريج إلى قطاع لا يجذب الكفاءات الجديدة، ثم إلى قطاع ينتج سلعة لا طلب عليها من الجمهور.
لو أحصينا عدد الأفلام المنتجة لكل مليون مواطن مصري، سنجد أن حجم الإنتاج تضاءل إلى الخمس أو أقل عبر العقود التالية. كل هذا اقتصاد. كل هذا صناعة. كل هذه ثروة قومية مفقودة. والمفاجأة أن الصنعة أيضاً تراجعت.
مصر، بوجه عام، في حاجة إلى نخبة ذات ذهنية اقتصادية واسعة الأفق، تراعي المعايير الربحية في نظرتها إلى منتج كل قطاع. النظرة «الأخلاقية» المُستحلَبة من ضرع الخطابة الماركسية، أو من الوعظية الدينية، ضرتنا على أكثر من مستوى. لا أدري مقابل ماذا؟ رضى آذاننا عما تنطق ألسنتنا؟!
لا أدري إذن كيف تتفاعل الآذان مع ما سأقول! بعض المشاريع «المبتذلة» تملك قيمة اقتصادية أعلى من نظيراتها من ذوات الحاجب المرفوع، والقسمات الجادة. تجهيز شاطئ للهو ربما يقدم عائداً أفضل من استصلاح فدان في صحراء، والأهم من ذلك، أن الأول قد يوفر عائداً يمكننا من إنجاز الثاني.
بينما قد يعطلنا الثاني سنوات، في وقت حرج، عن إنجاز الأول. هذا يعني أنه في ميزان الاقتصاد، ترجح كفة ذلك المشروع الخفيف، على نظيره الثقيل، على الرغم مما تقرؤه في المقالات الاقتصادية. وهذا اختلاف فلسفي أصيل في النظرة إلى حياتنا على هذه الأرض. يبدو فوق سطح التربة هيناً، لكن جذوره وغذاءه وريَّه مشتبكة بروافد أعقد مما تظن.
من المحبط أن يقضي الإنسان عمره عقداً بعد عقد يسمع الكلام نفسه، ويقرأ المقالات نفسها، والأكثر إحباطاً ألا يشعر بالأمان إلا في تلك الإعادة. هذا نطاق راحة محكم الإغلاق، لا يتجدد فيه الهواء، وراحة الأعصاب فيه سببها غاز بطيء قاتل، يشل بنعومة قدرتنا على التفكير والتصرف. هكذا تكلم جعفر.