إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

بلد روبوتات

يخرج خادم جارتي لكي يرافق كلبها المدلل في نزهته المسائية اليومية. هو ليس حيواناً حقيقياً بل كلب آلي. والخادم نفسه ليس رجلاً من لحم ودم بل إنسان آلي، يعني روبوت، بالمصطلح العلمي. ولست متأكدة أن جارتي امرأة مثل بقية نساء الخلق، فأنا لم أرها رؤية العين لكنني أسمع صوتها حين تأمر خادمها بأن يكنس المكان. أو تصرخ في كلبها لكي يكفّ عن النباح. ألا يمكنها برمجته على وضعية الصمت، مثلما أفعل مع هاتفي؟
لسنا في القرن الخامس والعشرين. لكن ما أراه على الشاشة من ترويج للمدن الذكية يرهقني. بيوت صممها مهندسون عباقرة لكي تريح ساكنيها لكنها ترهقني. لا يعجبني أن أنطق بكلمة «ستارة» فتنفرج الستائر في غرفة نومي. هل هناك ما هو أجمل من أن تتمطى وتتثاءب ثم تنهض من فراشك لتزيح الدانتيلا الشفافة وتفتح الشباك وتتلقى نسمات الصباح؟ النوافذ في المباني الذكية تُفتح صوتياً. والإنارة تُضاء صوتياً. وكذلك ماكينة القهوة وأجهزة التدفئة والتبريد والتلفزيون والموسيقى. وحتى الماء في بركة السباحة يتموّج بالأوامر.
نقلني صديق في سيارته، قبل عشرين سنة، وكان الطقس ثلجياً لكن السيارة دافئة من قبل أن نركبها. قال إنه يبعث إشارة إلى جهاز التكييف فيها فيدور قبل دقائق من مغادرته البيت. كان فيها ثلاث وسائد للطوارئ. وفي الطريق كان يأمر سيارته الذكية قائلاً: إلى السوق. فتذهب إلى السوق. أو يقول لها: إلى المكتب. فتتجه إلى المكتب. أو: إلى بيت خالتي. وسمعت، بأذني هاتين، السيارة وهي تستفهم: بيت خالتك أم نبيل أم عند الجماعة؟
ويقولون لك إن المركبات باتت تسير من دون سائق. وأنا لم أجرب ذلك. لكنني ما زلت أتردد في استخدام خط الترامواي الذي يقود نفسه بنفسه. يبدو أن بقايا التخلف لم تغادرني تماماً. وعقلي ما زال يرفض أن يستسلم لعقل الآلة ويضع روحي بين يديها. من يفرمل هذا الحديد الأصمّ إذا قفز أمامه طفل في الطريق؟
مضت عبارة «بلد شهادات» إلى دهاليز النسيان وتغيرت أحوال البلدان. الشهادات في بلدي تُشترى بالمال وقيمتها لا تساوي ثمن الورق الذي طُبعت عليه. تعال يا شاهد ما شافش حاجة وانظر دنيانا التي تحولت إلى عالم روبوتات. الكل يتسابق في النقر على المفاتيح. سيشعر بالغربة كل من عرف زمن قلم الحبر ذي الخرطوشة المطاطية. نغمس طرف القلم في قنينة قصيرة ذات سائل أسود لتعبئته من جديد. رحم الله المحبرة. زملائي المثقفون يسمونها الدواة. ثم جاءت انتفاضة قلم الحبر الجاف وبعدها ثورة الكتابة من دون قلم، بالأنامل على الحاسوب. وما زال ذلك الصديق لا يؤمن باكتمال قيافته من دون أن يشبك قلم «الباندان» بجيب قميصه.
أنقر على الشاشة وأقرأ في الموسوعة أن تعبير «روبوتا» ظهر للمرة الأولى، عام 1920 في مسرحية من نوع الخيال العلمي كتبها المؤلف التشيكي كاريل تشابيك. وهي تعني العمل والكدح. أما الكادح الآلي فلم ير النور إلا في السبعينات. وقد عهد إليه تكرار حركات وهمات قد تسبب التسمم للبشر، مثل الدهان ولحيم السيارات.
أرى، بعين الخيال الأدبي، أحفادنا وهم يستلقون على ظهورهم من الضحك حين يشاهدون صورنا القديمة. يقول أحدهم لرفيقه إن جدته كانت تستخدم هاتفاً أسود ثقيلاً رابضاً على المنضدة. ويجيب الرفيق أن جدّه كان يدسّ أصبعه في قرص معدني ويدير الأرقام، وقد ينفتح الخط أو لا ينفتح. يتعجب الأحفاد من فقر حياتنا ويسخرون من زمان الوصل في... بغداد.