زين العابدين الركابي
كاتب سعوديّ
TT

(السنة).. في الجهاد

هناك مسلمون - منهم مثقفون ومفكرون - يبادرون إلى (الاعتذار) حين يتحدثون عن الجهاد - مثلا -، وكأن الجهاد سبة مخجلة تتوجب البراءة منها!!
نحن ضد هذا الخجل المصطنع الذليل الذي لا يزال يلح على أصحابه حتى ينتهوا إلى الاعتذار عن الإسلام نفسه ((!!!)) نحن ضد هذا الموقف الحائر المضطرب.
لماذا؟
أولا: لأن الجهاد في الإسلام - بمفهومه الصحيح المستقيم - إنما هو (حق) و(عدل) و(خلق).. وهذه مكارم سامية لا يعتذر عاقل من الإيمان بها ومباشرتها.
ثانيا: لأن الجهاد مصطلح إسلامي يقابله عند سائر الأمم مصطلح (القتال الدفاعي) فما من أمة من أمم الأرض إلا لها (كيان دفاعي) يدفع عنها عدوان المعتدين.
فالجهاد - من ثم - فعل يمارس بمقتضى (غريزة) الدفاع البشرية التي أودعها الله في كل إنسان - فردا كان أو جماعة - لكي يتمكن من الدفاع عن حياته ووجوده وبقائه.
وليس من حق أحد: أن يحرم المسلمين - وحدهم - مما يتمتع به سائر البشر، بل سائر الكائنات الحية!!
بيد أن الجهاد المشرف الذي لا يجوز الخجل منه ليس هو جهاد الحمقى الجهال الذين يحيلونه إلى فوضى ونزق وطيش.
إنما الجهاد الحق الذي نعنيه هو (جهاد السنة) أي الذي يتقيد في بواعثه ومقاصده ووسائله بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ماذا نعني بـ(السنة في الجهاد)؟
نعني أن للجهاد (سنة) يلزم اتباعها، كما أن لكل عمل من أعمال الإسلام (سنة) يجب اتباعها.
إن من أقوى الحجج في اعتماد السنة واتباعها (كرد على الذين يزعمون الاكتفاء بالقرآن وحده).. من أقوى الحجج: أن السنة تبين (كيفية) الصلاة، و(كيفية) الحج والزكاة والصوم، أي تبين (تطبيق) هذه العبادات التي وردت مجملة في القرآن.
ولسنا ندري لماذا: توقفت الحجة عن تبيين كيفية هذه العبادات، إذ إن الله تعالى لا يقبل من المسلمين عملا إلا إذا توافر فيه شرطان اثنان:
أ - شرط الإخلاص لله وحده لا شريك له.
ب - وشرط موافقة السنة في الصورة التطبيقية.
ونضرب مثلين. ثم ننفذ إلى جوهر الموضوع وهو (السنة في الجهاد)، حيث إن هذين المثلين يتكاملان مع (السنة في الجهاد).
1 - المثل الأول هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهذه شرعة استفاضت بها نصوص الكتاب والسنة من مثل قول الله تعالى:
أ - ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)).
ب - ((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)).
ج - ومن وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ((يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر)).
هذه التوجيهات العامة الملزمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لم تترك سدى، مطلقات بغير (كيفية) هادية وضابطة لها. بل بينت (السنة) كيفية أداء هذه الشرعة العظيمة.
ومن صور هذه الكيفية:
أ - استصحاب (الستر) في الأمر والنهي. فقد حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الستر في أحاديث كثيرة منها ((ومن ستر مسلما ستره الله تعالى يوم القيامة)). ولقد اهتدى العلماء الكبار بهذا الهدى فقال الفضيل - مثلا -: ((المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير)). وقال غيره: ((من أمر أخاه ونهاه على رؤوس الملأ فقد عيّره)).
ب - استصحاب (الرفق) في الأمر والنهي. فإذا دخل العنف - بأي طريقة - في أداء الأمر والنهي. فقد أفسده وشانه فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه)).
ج - الكف عن تتبع عورات المسلمين لقوله عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يؤمن قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)).
2 - المثل الثاني خاص بـ(الدعوة) إلى الله.. فالنصوص الإسلامية الكثيرة تضافرت على إيجاب الدعوة إلى الله عز وجل، فجاء المنهج النبوي يبين (كيفية) الدعوة إلى الله لئلا يضل فيها قوم، وإن حسنت نياتهم، إذ إن حسن النية لا يغني - قط - عن صحة المنهج.
ومن صور كيفية أداء واجب الدعوة:
أ - أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال المحترم النبيل: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)).
ب - أن يتطهر الداعية ويتجرد من رذائل الفظاظة والغلظة: ((ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)).
ج - أن يسلك الداعية مسلك الإيلاف الذي يقلل العداوات ويكثّر الصداقات: ((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)).
د - أن يملأ نفوس الناس بالأمل في القيام بعد الكبوة أو السقطة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم))، فلا يأس قط من رحمة الله، ولا قنوط - البتة - من توبته على المخطئين من عباده وإن أسرفوا على أنفسهم!!
هذان المثلان - في تبيين كيفية الأمر والنهي وكيفية الدعوة - يعضدان - بلا ريب - (كيفية السنة في الجهاد).
ومن صور السنة في مباشرة الجهاد:
1 - أن تدفع إلى القتال ضرورة ملجئة، لئلا يكون هواية، ولا أمنية، ذلك أن (العزيمة) - ها هنا - هي (العافية) والسلامة. ولقد صدع بهذه الحقيقة الحديث النبوي الصحيح الصريح: ((لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا)).
2 - أن يكون القتال الاضطراري لهدف مشروع وهو دفع العدوان: بلا تزيد ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)).. فقط ردوا العدوان ولا تزيدوا على ذلك، وإن كنتم قادرين على الزيادة!!
3 - أن يكون تقدير الدفاع الاضطراري بيد الحاكم المسؤول فلا يصح جهاد ولا قتال إلا وراء القائم بأمر الناس - أيا كان اسمه ووصفه - . قال النبي: ((الغزو غزوان. فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله. وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض فإنه لم يرجع بالكفاف)).
4 - ألا يكون الجهاد إكراها في الدين: ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)).
5 - ألا يفضي الجهاد أو الدفاع المشروع إلى استباحة دماء المدنيين الآمنين الذين لم يشاركوا في قتال ولا عدوان.
6 - ألا يكون خفرا (أي نقضا لعهد أمان). قال النبي: ((وذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)).. يقول الحافظ ابن حجر: ((ذمة المسلمين واحدة، أي أمانهم صحيح فإذا أمّن الكافر واحد منهم حرم على غيره التعرض له)).
7 - ألا يكون الدافع إلى الجهاد غضبا أعمى أو ثأرا جاهليا، فلا يحل لأحد أن يجعل الجهاد الإسلامي دثارا لثأر جاهلي انتقامي، ولذلك ترك الإمام علي كرم الله وجهه خصمه ولم يقتله - وهو قادر عليه -، حين بصق ذلك الخصم في وجه الإمام.. هنالك خشي الإمام أن يكون قتل هذا الخصم الفاجر السفيه المتطاول: حمية جاهلية، وثأرا جاهليا: يحبط الجهاد.
هذه هي سنة النبي في الجهاد، فمن رغب عن سنته فليس منه في شيء وإن صلى وصام وحج وزعم أنه مسلم: ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)).