ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

خورخي إدواردز

تعرّفت على خورخي إدواردز في باريس بعيد تعيينه أميناً ثالثاً في سفارة تشيلي لدى فرنسا. وما زلت أذكر جيداً شقتّه الضيّقة التي كانت تطلّ على الشوارع الكبيرة المحيطة ببرج إيفل. ربطتنا صداقة وطيدة دشّناها بزيارات أيام الأحاد إلى المنازل التي أقام فيها كبار أدباء فرنسا، وفي عام 1965 صدر له عن الدار التي يشرف عليها كارلوس بارّال أولى رواياته بعنوان «وزر الليل» التي لاقت استحساناً عظيماً عند النقّاد.
عندما عرفته، منذ ما يزيد عن خمسين عاماً، كان خورخي إدواردز يحمل في جعبته الثقافية كوكبة من الأدباء الإسبان تبرز فيها نخبة الذين ينتمون إلى جيل 1898، أي تلك السنة التي اضطرت فيها إسبانيا، مرغمة بعد هزيمة عسكرية نكراء، للتخلّي عن بويرتو ريكو وكوبا والفلبين التي انتقلت لتدور في فلك الولايات المتحدة. وقد اكتسبت الكثير من تلك المطالعات؛ حيث إن إعجابي الشديد بالناثر الإسباني الكبير آزورين أدين فيه لصداقتي مع خورخي إدواردز خلال تلك الفترة الجميلة.
لكن كتابه الأهمّ لم يصدر إلا بعد مرور سنوات، في عام 1973 تحت عنوان «شخص غير مرغوب فيه»؛ حيث يسرد تفاصيل تجاربه في كوبا التي كانت حكومة سالفادور الليندي قد أوفدته مندوباً إليها، ليحاول التقريب بين البلدين بعد سنوات من القطيعة الدبلوماسية. ولا شك في أن قلّة ضئيلة تذكر اليوم ذلك التيّار الأميركي اللاتيني العارم المؤيد لكوبا، الذي جمع أطياف الشيوعيين والاشتراكيين، وأشخاصاً مثلي، مع احتدام المواجهة بين الولايات المتحدة وكوبا، للوقوف بجانب ثورة فيديل كاسترو.
الكتاب الذي وضعه خورخي إدواردز يومذاك خرج عن ذلك الإجماع، وعرض بأدقّ التفاصيل تجربته التي دامت عدة أسابيع في كوبا. وتزخر صفحاته بوقائع عن لقاءات مع فيديل كاسترو، تصفه خلافاً للصورة التي كانت الصحافة تروّجها عنه، وتكشف الطاغية الحقيقي الذي كان الكوبيّون يعرفونه جيداً، بخاصة منهم أصدقاء إدواردز، مثل هيبرتو باديا عندما بدأت سلسلة معاناته مع الشرطة الكوبية التي أقصته كلّياً عن الحياة الأدبية بعد أن أجبرته على الإدلاء باعترافات تحت التهديد والتعذيب.
وسرعان ما تحوّل كتاب خورخي إدواردز إلى فضيحة كبرى، لأنه كان الرائد في وصف النظام الكوبي بالديكتاتورية السياسية التي تهدد أمن المواطنين الذين كانوا عرضة للاختفاء القسري في غياهب الجزيرة من غير أن تشير الصحف إلى اختفائهم. ولا شك في أن أسلوب الكتاب، الذي يتميّز بالهدوء والرويّة في سرد الأحداث، من غير التغاضي عن الأخطاء الذاتية الناجمة عن الخوف، ساهم في تعزيز صدقيته التي كانت تنبع من عمق صراحة إدواردز وشفافيته. أقبل القرّاء بالملايين على مطالعته، ودفع بكثيرين إلى الإحجام عن اعتبار إدواردز مجرد شاهد يسرد وقائع الأحداث السياسية، وراحوا ينظرون إليه على أنه كاتب أصيل يرقى إلى مصاف كبار الأدباء.
أذكر جيّداً ذلك الغداء الذي جمعنا في هافانا، حيث كان إدواردز مخوّلاً التردد على المطاعم الدبلوماسية، ودعا إليه لمشاركتنا الشاعر الكوبي الكبير ليزاما ليما، الذي كان يقبل على التهام الطعام بلا ضوابط ولا حدود، ويرفق كل لقمة أو جرعة باقتباسات رنّانة من عيون الشعر والأدب في مشهد استثنائي لا يغيب عن البال. وبعد أن انتهينا من تلك المأدبة وكنا نتوادع على باب المطعم، أمسك إدواردز بيدي وقال بصوت خافت: هل أدركت في أي بلد أعيش؟ فأجبته بصوت منخفض: تماماً. بعد ذلك اللقاء بأسابيع، انفجرت الفضيحة التي أدت إلى تهاوي تضامن الطلائع الأدبية والسياسية في أوروبا وأميركا اللاتينية مع الثورة الكوبية، مع نشر رسالتين مفتوحتين حول قضيّة باديا، تحملان تواقيع أدباء من أميركا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة، ردّ عليها فيديل كاسترو بمنعنا من دخول الجزيرة وإطلاقه الانتقادات اللاذعة والاتهامات ضدنا.
لكن خورحي إدواردز، الذي كان روائياً قبل أي شيء، استمر في الكتابة والبحث عن ذاته. وكما قال آرتورو فونتين في مقالته الرائعة التي نشرتها مجلة «الآداب الحرّة»، للقراء، أن يختاروا ما يشاءون بين أعمال إدواردز المنوّعة التي ليست سوى بحث لا ينقطع عن الحقيقة والكمال. أما إدواردز، فهو كان يقول إنه بين جميع أعماله يؤثر «أصل العالم»، فيما أعتقد شخصياً أن أهم كتبه هو «موت مونتاني». وعندي أن التماهي بين مونتاني وخورخي إدواردز يعود لهوية مشتركة، فكلاهما عرف عنه الحذر والدقة في مقاربة القضايا التي كانا يتعرضان لها بأسلوب مميز شكّل العلامة الفارقة للفيلسوف الفرنسي الذي عاش في القرن السادس عشر. وعندما كنت أقرأ إدواردز، غالباً ما كان يساورني الاعتقاد بأنه وجد ضالته الأدبية ونموذجه الفكري عند ذلك الرومانسي الكبير الذي كتب على جدران بيته عناوين الكتب التي كان يقول إنه يحتاج لقراءتها ليصبح إنساناً «مثقفاً».
والبحث الذي وضعه إدواردز عن مونتاني جميل جداً، ولعله الأفضل بين كل ما كتب عن صاحب «Essais».
أما رحلته إلى إسبانيا، برفقة ابنته، عندما كان سقيماً جداً ويتعثّر كثيراً في النطق، فقد كانت مثار قلق عميق بين أصدقائه. لماذا؟ لأن خورخي، كما يحصل عادة للعديد من الكتّاب، كان يشعر بنقمة عميقة وسخط شديد ضد بلده. وكان يعتبر أن مواطنيه لم يقدّروه كما يستحق، وأنهم ربما كانوا المسؤولين عن «تهميشه». وهذا داء يصيب الكثيرين من الكتّاب، بعضهم عن حق، ومعظمهم بسبب مبالغتهم في تقدير ذاتهم. لا أملك المعرفة الكافية عن حالة إدواردز، لكن ليس مستبعداً أنه لم يعط حقه بين الكبار الذين حفل بهم الأدب التشيلي.
على أي حال كان المرض قد اشتد عليه، وكان يواجه صعوبة كبيرة في التعبير الشفوي. ويسعدني أنه في العام الماضي، بمناسبة مهرجان الكتّاب في مدينة مالقة الإسبانية، منحه «كرسي فارغاس يوسا الأدبي» الاعتراف الذي كان يستحقه، رغم أن حالته الصحية لم تسمح له بالانتقال إلى المهرجان لتسلّم تلك الجائزة. أعتقد أن حالة إدواردز ما زالت قريبة جداً منا، ومن المستحسن أن يعاد تقييمها مع مرور الزمن، ولا شك عندي في أن أعماله التي لا يمكن لأحد التشكيك في أهميتها، ستواصل استقطاب الأتباع والمعجبين.
وفي ظنّي أن رحلته تلك إلى إسبانيا كان فيها قدر كبير من التهوّر، وكان من المفترض بعائلته أن تمنعه من القيام بها وإبقاؤه في تشيلي. كان من الخطأ السماح له بمغادرة سانتياغو إلى مدينة لم تكن تتوفر فيها المساعدات التي كان يحتاج إليها، وحيث لم يكن له من أصدقاء سوى حفنة ضئيلة من الكتّاب الأميركيين اللاتينيين.
وعلى تلك الحال بلغ يومه الأخير عندما قال له الأطباء إنه بحاجة لعملية جراحية تتركه أبتر الساقين، فردّ بحزمه المعهود في اللحظات الحاسمة: أبداً. بعد ذلك استسلم لقيلولة، ثم أسلم الروح في نعاسه إلى الحياة الأخرى. كان كاتباً كرّس حياته وكامل طاقته لأعماله التي لا بد من مواصلة قراءتها والتبحّر فيها لتكون جزءاً من حيوات قرّاء كثيرين. ولأنه كان كاتباً كبيراً، أعتقد أن في أعماله الكثير من الأسرار التي على القراء كشفها بين رواياته وبحوثه التي أصبحت إرثاً كبيراً في الأدب الأميركي اللاتيني، والإسباني، والتي لا بد من تسليط الضوء عليها، لأن فيها قوة الأدب وعظمته.