د. محمد علي السقاف
كاتب يمنى خريج جامعتَي «إكس إن بروفانس» و«باريس» في القانون والعلوم السياسية والعلاقات الدولية حاصل على دكتوراه الدولة في القانون عن منظمة «الأوابك» العربية من السوربون ماجستير في القانون العام ماجستير في العلوم السياسية من جامعتي باريس 1-2. له دراسات عدة في الدوريات الأجنبية والعربية والعلاقات العربية - الأوروبية، ومقالات نشرت في صحف عربية وأجنبية مثل «اللوموند» الفرنسية. شارك بأوراق عمل في مراكز أبحاث أميركية وأوروبية عدة حول اليمن والقضايا العربية. كاتب مقال في صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

نحو نظام إقليمي جديد في إطار التحولات الدولية

بعد توقيع «اتفاق بكين الثلاثي» بين السعودية وإيران، في 10 مارس (آذار) الماضي، ما الذي تغير على المستوى الإقليمي بمفهومه الضيق؟ فدول الإقليم لم تتغير جغرافيتها؛ فهي موجودة في مكانها، سواء على مستوى المملكة العربية السعودية أو على مستوى الجمهورية الإسلامية الإيرانية. التغيير الحقيقي الذي حدث بعد «اتفاق بكين» لا يقتصر على هدف إعادة تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران، وإنما يتجاوز ذلك كثيراً، ويعني أكثر من تطبيع علاقات بين بلدين متنافسين، ويشير إلى ملامح قيام نظام إقليمي جديد في الخليج والجزيرة العربية. إلى جانب ذلك، ظهر أمامنا، عبر الوساطة الصينية، انتقال مراكز الثقل الاستراتيجي والجيواستراتيجي من الغرب إلى دول الجنوب للعالم الثالث.
إذا أخذنا المملكة العربية السعودية بوصفها أحد طرفي «اتفاق بكين»، فسيلاحظ اختلاف شبكة علاقاتها بالقوى الدولية الكبرى عن وضع إيران. أغلب المراقبين اعتبروا أن اتفاق بكين جاء في وقت ينحسر فيه النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وهذا صحيح إذا ما رأينا الحرص الصيني أثناء استقبال الرئيس الصيني في ديسمبر (كانون الأول)، حيث نظم له 3 لقاءات قمة مع السعودية، البلد الزائر، ومع دول «مجلس التعاون»، ثم مع أعضاء جامعة الدول العربية. هل هذا الاختلاف يعني بالضرورة أن السعودية ابتعدت عن علاقتها التاريخية القديمة مع الولايات المتحدة، أم أن الأمر برمته يعكس رغبة السعودية في تنويع شراكاتها بالدول الكبرى، وفق ما يلبي مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية بوصفها قوة إقليمية صاعدة؟ أجابت عن هذا التساؤل السفيرة السعودية لدى الولايات المتحدة، الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان، في مقابلة مع مذيعة «سي إن إن»، بيكي أندرسون، بتاريخ 25 أكتوبر، بأن أقرت بوجود خلاف بين السعودية والولايات المتحدة، إلا أنها قالت إنه «ليس خلافاً سياسياً، وإنما اقتصادي بحت»، مؤكدة أن العلاقات الممتدة بين الحليفين التاريخيين طول 80 عاماً «متينة»، وجاءت هذه التصريحات في سياق الرد على استياء الولايات المتحدة من قرار «أوبك» بتخفيض حصص إنتاج النفط واتهامات البيت الأبيض بأن الرياض تنحاز إلى صف روسيا!
تأكيداً على العلاقات المتينة بين السعودية والولايات المتحدة صفقة الطائرات التي أبرمت مع شركة «بوينغ»، بعدد 121 طائرة؛ أحدهما لصالح الشركة الجديدة «طيران الرياض»، والأخرى لـ«الخطوط الجوية السعودية»، بقيمة إجمالية 37 مليار دولار، وستدعم الصفقتان وحدهما أكثر من 140 ألف وظيفة أميركية. وقد صدر بهذا الخصوص بيان من وزيرة التجارة الأميركية، ريموندو، في 14 مارس (آذار)، التي اعتبرت هذه الصفقة من أكبر الاتفاقيات التجارية في تاريخ الشراكة الأميركية السعودية.
وفي نطاق آخر، وقبل توقيع «اتفاق بكين»، صرح وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، في 16 يناير (كانون الثاني)، في «المنتدى الاقتصادي العالمي» بدافوس، بأن المملكة العربية السعودية يمكن أن تساعد في أن تكون قناة اتصال بين الولايات المتحدة والصين في وقت تتصاعد فيه التوترات الجيوسياسية، مضيفاً بالقول إن السعودية بمقدورها الحفاظ على حوار مفتوح مع جميع القوى السياسية الكبرى وسط الحرب الروسية في أوكرانيا، والتنافس بين واشنطن وبكين، وتقلبات سوق الطاقة، وفقاً لما ذكره لشبكة «CNBC»، واطلعت عليه «العربية نت». ما دلالات هذه التحركات السعودية على المستوى العالمي؟ إحدى دلالات ذلك تعني أن السعودية يمكنها التعامل مع جميع القوى الكبرى في العالم (بعكس الحالة الإيرانية)، وهذا يعكس بوضوح أن سياسة المملكة الخارجية انتقلت من التقليدية إلى الجرأة في صياغة أهدافها وتحديد آليات تنفيذها وفق توجهات ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، ولأن الاقتصاد هو عماد السياسة الخارجية، أطلقت «رؤية 2030» لتشكل القاعدة المحلية، وترتب البيت في الداخل، من منطلق صلب وقوي للتعاطي مع سياسة خارجية طموح تتجاوز الطموحات الإقليمية، وفق نهج جديد يقوم على المصالح الوطنية أولاً وقبل كل شيء آخر!
وجود «رؤية 2030» بكل أبعادها الاقتصادية والجيوسياسية كان من دون شك أحد العناصر التي دفعت بالصين إلى السعي لتطبيع العلاقات بين السعودية وإيران، لتوفير الأمن والاستقرار، ومواكبة طموحات السعودية بجعل «أوروبا الجديدة في الشرق الأوسط»، وهي طموحات في غاية الأهمية تواكب الطموحات الصينية التي بدورها ترى تأسيس شرق أوسط جديد يتماشى مع طموحاتها في بناء نظام دولي متعدد الأقطاب.
إذا كانت السعودية تستطيع وفطنت إلى أهمية تنويع علاقاتها مع الدول الكبرى؛ سواء مع الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، ومع روسيا والصين، فإن إيران في المرحلة الحالية علاقاتها أكثر تطوراً مع الصين وروسيا، وتشوبها صعوبات وتعقيدات مع الغرب بسبب تداعيات الاتفاق النووي.
لذلك للصين علاقات قوية بإيران؛ تستورد كميات كبيرة من النفط، رغم العقوبات الأميركية، وهي أيضاً مورِّد للسلاح لإيران، كما أنها وقَّعت معها اتفاقية شراكة استراتيجية لمدة 25 عاماً، وساعدت الصين أيضاً إيران للانضمام إلى «منظمة شنغهاي للتعاون والأمن».
ومن المتوقَّع انضمام السعودية أيضاً إلى المنظمة نفسها بصفة شريك حوار خطوةً أولى قبل منح السعودية العضوية الكاملة في هذه المنظمة التي تمثل نحو نصف سكان العالم، وتشكل أكثر من 20 في المائة من الناتج المحلي العالمي، وتضم في عضويتها عضوين دائمين في «مجلس الأمن الدولي»، و4 دول نووية: الصين، وروسيا، والهند، وباكستان.
والميزة الأخرى التي تتمتع بها السعودية أنها عضو في دول «مجموعة العشرين»، التي تضم الصين وروسيا وبقية الدول الصناعية الكبرى.