خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

مرحباً بكم في جنة الكسالى

المطلوب منك في محل العمل أن تكون ذا أخلاق. والأخلاق المطلوبة منك بسيطة. أن تبدأ عملك في موعده المتفق عليه، أن تكون مبادراً وحريصاً على تقديم أفكار تفيد الشركة، وأن تلتزم مواعيد التسليم وتنجز المهام في الوقت المناسب وبالكفاءة المتوقعة أو أعلى. مطلوب منك أيضاً أن تكون ودوداً متعاوناً مع زملائك، مستعداً للتعلم، متقبلاً للنقد، إيجابياً ولا تتعمد نشر الروح السلبية.
حاول كثيرون تلخيص جوهر الأخلاق التي تجعلك موظفاً جيداً. والنتيجة الأشهر هي المثلث المكون من ثلاث صفات: الذكاء (العملي التطبيقي)، والجوع (إلى التعلم والترقي)، ولين الجانب.
إنْ فعلت ذلك فطريقك إلى الترقي مفتوح. هذه هي القاعدة. تسيُّد الاستثناء الصورة -رغم أنف القاعدة- قد يحدث، لكن ليس بالكثافة التي تسمع بها الأخبار عنه. كل الحكاية أن الاستثناء يصنع قصة مروية، يحرص على حكايتها لسان، وتحرص على سماعها أذن. وأغلب الظن أن الحكاية مرّت لديك بأحدهما أو كليهما. وربما أثّرت على موقفك من العمل ومنطلق تعاملك معه. أتمنى ألا تصدق أبداً أن «صاحب الأخلاق ليس له نصيب في هذا الزمن».
معظم الذين يرددون المقولة السابقة يتحدثون عن نوع آخر من «الأخلاق»، لا علاقة له بالعمل. ربما ينفعك إن تقدمت لعروس يريد أهلها أن يشتروا رجلاً، أو تقدم لكِ عريس يريد امرأة على حياء العذراء في خِدرها. أما في العمل، فلا الحياء ولا الصراحة لهما وزن في الميزان، بل الكفاءة. إنْ برَّر لك شخص تأخره في الترقي بأنه «صريح ودوغري واللي في قلبي على لساني»، فاعلم أن هذا ما عنده، وفقط. أن لديه مشكلة في التواصل. وأنه منفّر متجاوز للحدود، ومضطلع بدور لم يَطلب منه أحد تأديته. وأغلب الظن على حساب المطلوب منه من مهارات العمل، وأخلاقياته.
العالم سعيد إذن. يحصل الفرد في مكان عمله على ما يستحق. من أين تأتي الشكوى من المحسوبية والواسطة وترقية غير المستحقين؟
يا أخي، ليتك قلت ذلك من البداية. فهمتك، فهمتك. أنا أتحدث عن الوضع الطبيعي، وأنت تتحدث عن الوضع في ظل شركات «المال العام». نعم، في شركات «المال العام». قد تتحلى بكل أخلاق العمل الحقيقية المذكورة ولا يلتفت إلى تميزك أحد. ربما يصعّد المدير قريباً له، أو ابنة لصديق ينتظر منه رد الجميل، أو قريباً لمسؤول كبير أو ذي نفوذ.
الاشتراكية ليست الوضع الطبيعي. الوضع الطبيعي أن يكون المال في أيدي أصحابه، كما حكم سليمان أن يبقى الولد في رعاية أمه التي تهتم بصحته وعافيته. بينما الأخرى لا تبالي بما يحدث معه. المال العام، مال كل المواطنين، مال لا أحد. المقصود من العبارة نزع ملكية المال عنك، وليس تثبيت ملكيته لغيرك. لو بنى شخص على الرصيف دكاناً قطعه، فاعترضت، سيقول لك: «الشارع شارع الحكومة». وهي جملة تفسيرها الوحيد في هذا الموقف أن الشارع ليس ملكك. ليس من حقك أن تغضب لمخالفةٍ ارتُكبت فيه، ولا أن تمنعها. وهذا يسري على الإشغالات كافة، ويسري على تخريب مقاعد الأوتوبيس والقطار والمترو.
وعلى ذات المنوال، المؤسسة التي لا يملكها أحد لا تقرص خسارتُها أحدا بالحدة المطلوبة. لا تعضه في جلده. الشركة وحدها ستصرخ على طول طريق طويل من الآلام الإدارية، وتفرعاته التي نعاني منها. من أول تزويغ الموظفين بلا رقيب، مروراً بتشغيل معدمي الكفاءة، وتجاهل «أصحاب الأخلاق» المهنية.
والأمر لا يقتصر على شركات بزنس الأموال. هل يصحُّ أن نقول إنَّ بزنس التعليم العام يصير استثماراً خاسراً إذا ما نظرنا إلى عائده المادي الذي يستخدم في التوسع في التعليم لكن يبقى السؤال: هل أنتج هذا التعليم تعليماً جيداً واستثماراً في البشر؟ بزنس الثقافة سيفرز أصدقاء الشلة، حيث المناصب الإدارية تمنح هدايا دون أن نطلب في مقابلها عملاً، ولا مستهدفاً، ولا محاسبة دورية بناءً على ما كسبته الثقافة أو خسرته. من الاستثمار التجاري إلى التعليمي إلى الصحي إلى الرقابة المحلية، كله رايح. والسبب الاشتراكية، وتفرعاتها. الاشتراكية خطر عظيم على مال الإنسان وأخلاقه وعلى أخلاق المجتمع ككل.
لا تظن أن هذا العوار الإداري سيتوقف عند المسؤولين الكبار في هذه الشركة العامة أو تلك. بل سيخلق جيشاً عرمرماً من الراغبين في استمرار الوضع على هذا الشكل. العمل، في المطلق، ليس مهمة سهلة. ومحل العمل اختبار صعب في الحياة الاجتماعية، وصعب في التنافس المهاريّ. بعد أن يغيب الحافز سيزداد بالتدريج عدد من اكتشفوا أنهم في الحقيقة رابحون من التسيب الإداري. بينما سيتضرر فقط من لديهم مؤهلات تفوّق، لم يعد أحد حريصاً عليها. يحكم في المال من لا يملكه. لن يتضرر إن ضيّع موهبة ستزيد المال، أو وظّف توظيفاً أبدياً شخصاً سلبيَّ التأثير.
عودٌّ على بدء، لو بحثت خلف كل مقولة شكوى من الزمن، ومن الحال المايل، فستجد أن السبب اختيار سياسي اقتصادي إداري سار بالمجتمع في اتجاه أتلف أخلاق ناسه. اختيار بعيد عن المسار الطبيعي.
الاشتراكية وتفرعاتها ليست اختياراً متوافقاً مع قوانين الطبيعة. هذا جوهر المشكلة، في كل تفصيلة من حياتنا اليومية، وليس ما يقال في الجدل السياسي. الاشتراكية، القطاع العام، تخلق جنة الكسالى ومحدودي الموهبة.