عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

احتجاجات إسرائيل والتناقضات الدستورية

رغم اختلاف جوهر الاحتجاجات وطبيعتها، ومطالب المتظاهرين والأسباب من ورائها، في كبريات المدن الفرنسية المستمرة لفترة طويلة، عما يجري في إسرائيل، فإن هناك عوامل مشتركة أريد التركيز عليها. النظم الغربية، سواء القديمة أو الحديثة (نسبياً) أو الجديدة جداً، لا تزال تحتوي على خلل تركيبي أساسي، يبدو أكثر وضوحاً في النظام الجمهوري وشبه الجمهوري، في بلدان يتكرر تعرضها لاضطرابات ومآزق دستورية، مقارنة باستقرار واستمرارية النظام الملكي البرلماني، حتى بلا دستور مكتوب، كحال بريطانيا مثلاً.
في فرنسا بدأت الحركة بمطالب اقتصادية اجتماعية، لكن اتساع رقعة الاحتجاجات وحرارتها يعكس شعوراً بعدم الرضا عن أداء الرئيس نفسه (إيمانويل ماكرون)، الذي تمكنه القوانين السياسية، دستورياً، من اتخاذ إجراءات أوتوقراطية في جوهرها عند رفض البرلمان (الجمعية الوطنية) لمشروع حكومته حول رفع سن المعاش. فعملياً يمكنه تجاوز البرلمان، متجاهلاً الاحتجاجات، كما فعل سابقوه؛ فهو الفيصل في أي خلاف بين الحكومة والبرلمان (وفق الدستور) كرئيس دولة دستوري، وأيضاً تنفيذي يعين الحكومة في النظام الجمهوري.
هذا يثير تعجب البريطانيين، فدستورهم غير المكتوب هو تقاليد ممارسات بتراكم السوابق والقوانين؛ ووجود ضوابط وتوازنات تجعل من شبه المستحيل أن تنفرد حكومة أغلبية برلمانية بريطانية بقرار مثير للخلاف، باستثناء حالات طوارئ، كالحرب مثلاً.
أما الاحتجاجات الواسعة التي تشهدها إسرائيل، وأوقفت الطيران في مطار بن غوريون، ووصلت درجة أن ضباط سلاح الطيران أنفسهم يضربون عن أداء المهام، وكذا الاتحادات العمالية والمهنية، بسب تعديلات تحاول حكومة ائتلاف بنيامين نتنياهو إدخالها على صلاحيات وعمل المحكمة العليا.
إسرائيل أيضاً ليس فيها دستور مكتوب، ولأنها حديثة العهد (75عاماً فقط)، فليس هناك سوابق وتقاليد تراكمت عبر الأجيال ليتكون منها دستور الممارسات والتقاليد كحال بريطانيا.
في بريطانيا فصل بين جهاز الدولة الثابت المستقر، الذي يتبع التاج Civil Service، وبين الحكومة السياسية كجهاز تنفيذي، لكنها أيضاً منتخبة، والوزراء موجودون يومياً في البرلمان كنواب على البنشات الخضراء. وهنا تتضح أهمية التركيبة البرلمانية المختلفة، وليس فقط فارق استقرار النظام الملكي؛ فالحكومة في بريطانيا جزء من البرلمان، الذي يتكون من مجلسين، العموم، واللوردات، بينما في إسرائيل مثلاً، الكنيست يتكون من مجلس واحد فقط. اللوردات هو صمام أمن لمراجعة العرائض (مشاريع القوانين) التي مررها نواب العموم بتصويت الأغلبية قبل رفعها للملك للتصديق عليها فتصبح العريضة قانوناً قابلاً للتنفيذ. في وستمنستر أيضاً معارضة، كبديل أمام الشعب، وهو ما يغيب عن النظام الجمهوري وشبه الجمهوري (ولذا تجد مجلس العموم في صفين متقابلين كخصمين متبارين وليس في نصف دائرة)، وهو ربما النظام البرلماني الديمقراطي الأفضل (حتى يأتي المستقبل بنظام أفضل منه) لأن استقرار الديمقراطية يعني توازنات وضوابط ـ والتوازنات هنا أن المعارضة هي حكومة ظل بالمناصب الوزارية كافة كبديل للحكومة، تتسلم الحكم ساعات قليلة بعد حسم نتيجة الانتخابات. بينما في النظم الأخرى، يستغرق الأمر أحياناً عدة أشهر لتشكيل الحكومة (عامين 2018 - 2020 في بلجيكا).
القانونيون والمثقفون الإسرائيليون، وراء الاحتجاج على إجراءات ائتلاف نتنياهو، لا يخجلون من الظهور في إذاعات أجنبية منتقدين، بلهجة شديدة، حكومتهم ورئيسها، محذرين من تحول الدولة اليهودية إلى ثيوأوتوقراطية قومية متعصبة، ويشبهونها بالمضي إلى «مصير إيران وأفغانستان طالبان».
بل إن بعضهم يحذر من «فساد البقاء في المنصب» لفترة طويلة، وخطورة احتمال ديكتاتورية الائتلاف اليميني في بلد يمتلك أسلحة نووية. ويصفون مشروع «الإصلاحات» القضائية، الذي يعده نتنياهو وحلفاؤه بانقلاب سياسي. وهنا تظهر أهمية دقة التعريفات، فكلمة انقلاب ارتبطت في أذهان الناس بالانقلابات العسكرية، لكنه تعريف ضيق، (فالجيش غير مسيس، فكثير من الضباط والطيارين اعتبروا نفسهم «مدنيين» ونظموا احتجاجهم كنقابات مدنية). فهناك انقلاب القصر، والانقلاب الدستوري (رغم المفارقة بغياب دستور مكتوب في الحالة الإسرائيلية) باستغلال الأغلبية البرلمانية لتعديل القانون، بشكل يعرقل تنفيذه ويضعف العدالة، أي حق يراد به باطل، والدافع عادة تركيز السلطة بشكل أوتوقراطي ليطيل أمد الحكومة الحالية فتصعب إزاحتها بطرق دستورية مشروعة كالانتخابات.
ويذكر الكثيرون مثلاً أثناء حكم الإخوان في مصر (2012 - 2013) كيف جمع رئيسهم المنتخب قانونياً، محمد مرسي، السلطات في يده وعرقل عمل المحكمة الدستورية (وحاصرها أنصاره)، مما أدى لانتفاضة شعبية عارمة أدت إلى إطاحته في العام التالي.
الحالتان، ويفصلهما عقد، يبينان، واقعياً ومن دروس التاريخ، أن «الانتخابات» وحدها، مهما كانت نزاهتها، لا تكفي كتعريف للديمقراطية، فالأخيرة لها مفصليات وقواعد ثابتة، وأخرى ديناميكية عبر مؤسسات وأذرع متشعبة من ضوابط وتوازنات. فالضابط الأقوى (والوحيد في النموذج الذي نحن بصدده) في القانون الأساسي لنظم سياسية كإسرائيل، لكبح جماح حكومة لها أغلبية في برلمان منتخب (من مجلس واحد)، هو المحكمة الأعلى.
المحكمة تأسست قبل 75 عاماً، وتتكون من خمسة عشر قاضياً، ورئيستها الحالية (منذ2017 وتنتهي مدتها بعد ستة أشهر) استر هايوت، في التاسعة والستين تمارس المحاماة منذ 1977 وأصبحت قاضية في عام 1990. والتحقت بالمحكمة الأعلى في 2004 عرفت باستقلاليتها وتمسكها الحرفي بالقانون.
واستقلالية المحكمة الأعلى تجعلها عملياً الضابط النهائي والوحيد لصحة القرارات قانونياً، ففي غياب نظام مثل وستمنستر بحكومة الظل (تشكل التوازن مع مجلس اللوردات والصحافة الحرة كسلطة رابعة)، يصبح التوازن البرلماني في إسرائيل مصدر خطر على نظامها السياسي، لأنه توازن منعزل ينحصر داخل مصالح القوى المكونة لائتلاف يجبر رئيسه على الاعتماد على أصوات أحزاب أقلية ثقافتها السياسة والاجتماعية شاذة عن النسيج العام للمجتمع، كأحزاب دينية رجعية النزعة (حزب ديني من عضوين فقط في ائتلاف حاكم في الثمانينات منع رحلات الطيران أثناء عطلة الجمعة- السبت) وأحزاب أقلية يمينية يحذر المثقفون الإسرائيليون من تقييدها للحريات المدنية كمساوة المرأة والأقليات غير اليهودية ونشاطات السياحة والأبحاث الطبية.
مصدر الخلل الأساسي هو التمثيل النسبي الانتخابي، فبجانب تعميقه الانفصال بين العرقيات، لا يتيح الفوز لحزب واحد ببرنامج سياسي محدد وواضح المعالم، بل ائتلاف يمنح جماعات الأقلية المتطرفة سلطة لا تعكس حجمهم الضئيل في المجتمع.