كول ستانغلر
TT

فرنسا غاضبة

اشتكى رينولد، مهندس ميكانيكي بميناء مارسيليا، يبلغ 50 عاماً، من أن «هذه الحكومة لا تنصت لنا»، بينما أقام زملاؤه العمال، هذا الأسبوع، متاريس على طريق مؤدية لمستودع وقود. وأضاف: «ثمة غضب عميق هنا».
ومن المحتمل أن تكون مشاعر الغضب قد هدأت بعض الشيء بفضل المقابلة التلفزيونية مع الرئيس إيمانويل ماكرون، التي أذيعت مؤخراً. خلال المقابلة، كسر ماكرون أخيراً صمته شبه التام إزاء إصلاح قانون المعاشات الذي أغرق فرنسا في موجة من الإضرابات والمظاهرات. وخلال المقابلة، دافع ماكرون عن التشريع الجديد باعتباره ضرورة اقتصادية. والواضح أن التصويت بسحب الثقة الذي نجا منه ماكرون بصعوبة داخل الجمعية الوطنية، الاثنين، لم يفلح في دفعه للشعور بالندم إزاء طرح التشريع الجديد. وفي مواجهة رفض غالبية الشعب، الذي يعارض رفع سن التقاعد بمقدار عامين ليصل إلى 64 عاماً، يقف ماكرون متشبثاً بموقفه.
ولا يزال البعض يأمل في الحيلولة دون تمرير القانون، خصوصاً أن ثمة سابقة لتراجع الحكومة الفرنسية عن قانون يفتقر إلى الشعبية، في وجه مظاهرات ضخمة اشتعلت عام 2006. أيضاً، لا يزال يتعين على مشرع القانون الجديد النجاة من فحص المجلس الدستوري الفرنسي، الذي يشكل أعلى محكمة بالبلاد، والذي قد يطرح أسئلة حول الأسلوب المريب الذي جرى طرح مشروع القانون من خلاله.
ومع ذلك، إذا نجحت الحكومة في المضي قدماً بالقانون، الأمر الذي يبدو محتملاً، فإن ذلك سيكون نصراً مكلفاً. والواضح أن الضرر الذي لحق بالبلاد خلال الأسابيع الماضية لن يكون من الممكن البراء منه، خصوصاً أن ماكرون أحرق الجسور مع الحلفاء المحتملين، وسمم العلاقات مع الشركاء المحتملين على طاولة التفاوض وحشد أغلبية الرأي العام الفرنسي ضده. وإذا حكمنا على الوضع من موجة الإضرابات التي عصفت بالبلاد، والتي ضربت معامل تكرير النفط في نورماندي وصولاً إلى الحافلات العامة، فإن حالة السخط تبدو مرشحة للاستمرار.
اليوم، أصبحت مهمة حكم البلاد أصعب أمام ماكرون. من دون أغلبية داخل الجمعية الوطنية، اعتمد حزب النهضة الذي يتزعمه ماكرون بشدة على دعم جمهوريين يمينيين منذ الانتخابات التشريعية التي أجريت الصيف الماضي.
ومع ذلك، أيّد 19 من النواب الجمهوريين اقتراح بحجب الثقة ضد ماكرون. وبعد هذا الإجراء الذي كشف عن حالة تمرد لا تخطئها العين، من الصعب تخيل تحالف الحزب مع قصر الإليزيه بخصوص أي إصلاحات كبرى في الفترة المقبلة.
الأهم من ذلك أن ماكرون فقد ثقة الرأي العام الفرنسي، واستنزف رصيده من حسن النية الذي ظل يحظى به بعد إعادة انتخابه من خلال تجاهله ـ من جديد ـ الملايين الذين صوّتوا لصالحه، بسبب رغبته في منع خصمه من اليمين المتطرف من الوصول إلى سلطة. وبسبب إصلاحه لسن التقاعد، تراجعت معدلات شعبية ماكرون لما دون 30 في المائة. وربما تلقى الدعوات لتنظيف شوارع العاصمة من أكوام القمامة التي تراكمت بها، استجابة حماسية من جانب القاعدة الحضرية الثرية الداعمة للرئيس، لكنها لم تلقَ آذاناً صاغية من جانب السواد الأعظم من أبناء البلاد، الذين لا تربطهم عوامل مشتركة تذكر بالباريسيين الأثرياء.
وتبدو اللحظة السياسية التي تعايشها فرنسا اليوم، شديدة الشبه بالمراحل الأولى من صعود حركة «السترات الصفراء» عام 2018، عندما أطلقت زيادة مقترحة في ضرائب الوقود العنان لأسابيع من المظاهرات. في ذلك الوقت أيضاً، كان الغضب يعتمل داخل صفوف الأسر التي تناضل لتلبية احتياجاتها، ودعم واسع للمظاهرات التي قوبلت بغطرسة صادمة من قبل المسؤولين. ومثلما كان الحال خلال الأيام الأولى لذلك الصراع، قضى ماكرون أسابيع من دون مخاطبة الرأي العام بخصوص معركة المعاشات باستفاضة، الأمر الذي أجبر رئيس وزرائه على مواجهة الأمر بدلاً منه. ويرى نقاد أن أول خطاب كبير يدلي به ماكرون بخصوص الأمر منذ انطلاق المظاهرات، اتسم بالغطرسة.
عن ذلك، قال لوران بيرغر، الأمين العام لأكبر اتحاد نقابي على مستوى البلاد «سي إف دي تي»، عن حديث ماكرون، إنه يعكس «نمطاً من الانفصال عن الواقع. وثمة حاجة لوضع نهاية لهذا الوضع الرأسي، حيث القليل من الناس يملكون الصواب، بينما الباقون جميعاً على خطأ». وقد دفع هذا الوضع فرنسا إلى أزمة سياسية ـ وهي أزمة تثير تساؤلات حول جوهر هيكل الجمهورية الخامسة والسلطات الواسعة التي تمنحها لرأس الدولة. ويتساءل الكثيرون: كيف لرئيس لا يحظى بأغلبية برلمانية أن يمضي قدماً في تنفيذ سياسة تفتقر إلى الشعبية لهذا الحد؟
ومع تجاهل ماكرون المناشدات بعقد استفتاء أو إجراء انتخابات تشريعية، تبدو الدعوات لإصلاح المؤسسات السياسية الفرنسية مؤهلة للتنامي. ومن بين الحلول المقترحة، حسبما يرى المؤرخ والعالم السياسي باتريك ويل، زيادة حجم المدة بين الانتخابات الرئاسية والأخرى التشريعية. ومن شأن ذلك السماح للناخبين الفرنسيين بتقييم فترة حكم الرئيس من خلال ما يعتبر بمثابة انتخابات تجديد نصفي فعلياً. وربما تكتسب دعوة حزب «فرنسا الأبية»، الحزب اليساري الشعبوي، لبناء جمهورية سادسة، جاذبية أكبر في أعين الجماهير الفرنسية. في تلك الأثناء، يزداد تسبب المظاهرات في تعطيل الحياة بالبلاد، وذلك مع إقدام نشطاء على وضع حواجز على طرق سريعة، وقيادتهم مسيرات ليلية. وقد اشتكى المعسكر الداعم لماكرون من اتباع المعارضين تكتيكات صدامية، بينما عقد الرئيس مقارنات بين ما يجري وأعمال الشغب داخل مبنى الكابيتول الأميركي في السادس من يناير (كانون الثاني).
ومع ذلك، لا توجد هذه المقارنة حقاً سوى في خيال الرئيس، وذلك لأن المتظاهرين اليوم يخرجون إلى الشوارع رداً على حكومة تجاهلت مراراً الرأي العام، ومناشدات من جانب اتحادات عمالية معتدلة ومسيرات ضخمة تقليدية انطلقت في الشوارع.
من ناحيته، أوجز رينولد الوضع على النحو الأمثل بقوله: «هذه الحكومة لا ترغب في التفاوض. حسناً، عند لحظة معينة، ستجد نفسها في مواجهة شعب لا يرغب في التفاوض هو الآخر».
* خدمة «نيويورك تايمز»