خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

إنسان السيرك... أسد الغابة

سيخرج الأسد للصيد مع بقية المجموعة، يتشارك معهم الغنيمة ويتقاسم معهم الخطر. سيتعلم بالطبيعة، وبالضرورة، مجموعة من السلوكيات التي تزيد مظنة الافتراس، وتقلل مظنة الهلاك. يمكننا القول إن هذا السلوك تعبير ظاهر عن «القيم» التي تحملها الأسود. قيم براغماتية تسعى إلى تحقيق منفعتها والحفاظ على بقائها.
إنْ تحول أسد إلى حياة السيرك فسيتبنى قيماً أخرى. لن يصفق له الجمهور إلا إذا رفع يده اليمنى بناء على طلب المدرب، أو قفز داخل حلقة النار، أو سار على أسطوانة دوارة. يتطلب الأمر مجهوداً ضخماً لتحويل الأسد من ملك الغابة إلى طوع المدرب.
لكن الخطوة الأولى في هذه الرحلة الطويلة، ومهما اختلفت أساليب التدريب والترويض، لا بد من أن تكون نزع الأسد من بيئته، ونقله إلى بيئة أخرى. وحصر خيارات حصوله على الطعام والشراب في طاعة التعليمات الجديدة.
إن عاد الأسد في إجازة إلى أقرانه وقال لهم: عندنا في السيرك الأكل بنظام، وبقدر محسوب، وهذا السلوك يجعلنا نعيش في سلام، الأسد مع الزرافة مع الفيل مع الغزال، فأقل ما يتوقع ضحكات صاخبة من رفقائه، مهما أتى من الحجج السيركية بالبليغ المنمق. نفس هذه الخطبة ستلقى تصفيقاً طويلاً إن ألقاها الأسد في محاضرة في «تيد إكس». العقول المحترمة التي تصفق له لا تعلم أنها تلقيه إلى مهلكة سريعة مع أول مشوار له في الغابة.
نحن بشر، أعلم ذلك، مختلفون عن الأسود، بقدر اختلاف القردة أو الغزلان عنها. لكن قانون العلاقة بين البيئة وبين السلوك سار على الجميع. إن ظننت أننا بعدنا عن غيرنا من الحيوانات شوطاً بعيداً فاعلم أن كل هذا الظن إثم.
نحن مختلفون عن الحيوانات بقدر ما تختلف بيئتنا عن بيئتها. أي أننا في رحلتنا للتمايز عنها قيمياً مايزنا بيئتنا أيضاً عن بيئتها. احتمينا بالكهوف، بالنار، بالخيام، واحتمينا بالشقق الإسمنتية، حوَّلنا الصخور إلى آلات حادة، وصنعنا طائرات مقاتلة. كما أننا أفرغنا جوارنا تقريباً من تهديدات الحيوانات الأخرى، فلم نعد جيران الغابة. لقد غيرنا البيئة تغييراً جذرياً.
المسافة شاسعة بين الغابة وبين بيتك في سان فرنسيسكو، أو الرياض، أو الرباط، أو الإسكندرية. والصلة بين الغابة وبيتك لا تشبه الصلة بين واحد واثنين، هي أقرب إلى الصلة بين الواحد والألف أو الواحد والمليون.
بينهما ظلال كثيرة، تشمل القبيلة والعشيرة والعائلة وحياة الترحال وحياة الاستقرار حول الصيد أو الزراعة أو مكاتب العمل ومصانعه. رحلة طويلة لا يتشابه فيها مجتمعان.
إن وصلت إلى هنا في قراءة المقال فأغلب الظن أنك تقول لنفسك: «وما الجديد؟ نعلم كل هذا». وهذا عظيم ومبشر. ولكن تعالوا نختبر المسافة بين «ما نعلم»، وبين «ما نفعل». لا يمكن اختبار فهم الناس لتطور المجتمعات بتحليلهم لما حدث في الماضي أو مجتمعات أخرى، هذا سهل؛ بل بقراراتهم هنا والآن، هذا التحدي. ومعنى أننا متفقون مع ما سبق أننا متفقون على نقطتين متكاملتين كوجهَي عملة:
1- أن تغير القيم استجابة لتغير البيئة. إن لم تتغير البيئة، ولم يتغير النشاط الإنتاجي، ولم يتغير نمط الحصول على الثروة، أو نمط التملك الخاص، فإن الحديث عن قيم حاكمة جديدة مجرد «طق حنك»، لا معنى له.
2- في المقابل، تغير البيئة يستوجب تغير القيم بما يوافق هذه البيئة. فلا يمكن أن نتحول من بيئة ريفية إلى بيئة حضرية، ثم ندعي أننا إن تمسكنا بـ«أخلاق القرية» فسوف نسعد ونمرح.
النقطة الثانية تبدو بسيطة أيضاً؛ لكنها مؤهلة لتصطدم بكلمة ثوابت؛ كلمة خفيفة على اللسان، شائعة كتحية صباح، ولكن ثقيلة كصخرة كؤود تسد ممشى جبلياً ضيقاً. هنا يفاجئنا الفارق بين تعلم الألفاظ، وبين تطبيق المفاهيم؛ مشكلة المشكلات في الدول المنتقلة حديثاً من الأمية إلى التعلم، والأمم المنتقلة حديثاً من أنماط إنتاج تقليدية إلى أنماط عصرية، والدول المنتقلة من الريف إلى الحضر.
في كل مجتمع تكتسب الثوابت مزيداً من المثبتات. مرة تختلط بـ«أخلاق القرية» على تنويعاتها، مرة بالعادات والتقاليد، ومرات تتحصن بالدين. ناهيك عن مثبتات إضافية ناتجة عن مراوغة مثقفين، لكي يفرغوا التغيرات الاجتماعية من مضمونها فتبدو عصرية في العنوان، دون أن تمس الثوابت في الجوهر.
اشتراكية مثقفي الخمسينات وما بعدها في منطقتنا كانت مجرد محاولة لتثبيت القيم القديمة في صورة تبدو عصرية. محاولة لتحويل الدولة إلى بديل للعائلة الريفية، تملك الثروة، وتحكم بالعرف، وتحافظ على القوانين التمييزية ضد بعض المواطنين، وتعبر عن الولاء والبراء في سياستها الخارجية باستخدام ألفاظ أخرى، وتجعل النقابات بديلاً لنظام «الشهبندر» القديم، مجرد أذرع سلطة تملك من النفوذ على أعضائها أكثر مما يجب، فتمنح الترخيص وتمنعه. كل شيء في الدولة الحديثة فرغوه من مضمونه. لكن هؤلاء المثقفين ظلوا مقتنعين في الوقت نفسه بإمكانية حصد القيم الديمقراطية، أو بناء اقتصاد توسعي تراكمي وسط هذا كله. يقولون إن المعمار هو أفكارنا مجسدة أمامنا. رأينا ترييف القاهرة ودمشق وبغداد والجزائر العاصمة.
ثم أنتج لنا انتشار مجتمعات «الإسلامجية» في الغرب نمطاً إضافياً مضحكاً من هذه المعضلة. يبدأ فيها الإسلامجي المغترب المتلبرل (متظاهر بأنه ليبرالي) من نقطة قصواء في انفتاحها؛ لكن حين تدخل معه في التفاصيل تصل إلى نقطة منغلقة انغلاق الريفي الذي لم يخرج من حدود النجع. فهو يريد الثمار التي تفيده، أما الجذور والسيقان والأفرع والأوراق والأزهار فـ«لا تناسب خصوصيتنا».
نسخر في مصر من هذه الفئة بتسميتها «الإخوان...». خلطة عجيبة من ثورية الاشتراكيين، على ليبرالية المنظمات غير الحكومية، على الإسلامجية العثمانية الجديدة.