روس دوثات
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

مشكلة تراجع العلوم الإنسانية

من خلال متابعة ردود الفعل التي جاءت على المقال الطويل الذي كتبه ناثان هيلر لصحيفة «نيويوركر» الأميركية مؤخراً، حول تراجع معدل التخصص في اللغة الإنجليزية، والذي جاء بعنوان «نذير موت للعلوم الإنسانية»، فإنه يمكننا رؤية الفكرة التي كان يطرحها المقال بوضوح؛ حيث تم التقاط أكثر الأجزاء المحبطة من القصة ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، من قبل أشخاص ربما لم يبدأوا حتى في قراءة المقال نفسه.
وقد لاحظت انتشار فقرة معينة من المقال، والتي ظلت تظهر على مدى عدة أيام على حسابي على تطبيق «تويتر»، والتي تتحدث فيها أماندا كلايبو، عميدة جامعة «هارفارد» والأستاذة في قسم اللغة الإنجليزية فيها، والتي كانت واحدة من بين كثير من الأكاديميين الذين تحدثوا في مقال هيلر، عن «التوجه نحو الحاضر بين طلاب الجامعات المعاصرين الذين فقدوا شغفهم بالماضي».
وقالت كلايبو له: «في المرة الأخيرة التي قمت فيها بتدريس رواية (The Scarlet Letter) اكتشفت أن طلابي كانوا يعانون بشكل حقيقي لفهم تركيبة الجمل الموجودة فيها، إذ كانوا يواجهون صعوبة في تحديد الفاعل والفعل، وذلك لأن قدراتهم مختلفة، كما أنه قد مضى وقت طويل على القرن التاسع عشر».
ومثل كل الآخرين الذين كانوا يقرأون للروائي الأميركي ناثانيال هوثورن في المدرسة الثانوية، قرأت مقال هيلر بمزيج من الشعور بالفخر والرعب في الوقت نفسه، ولكني بعد ذلك، قمت بفعل شيء كشف لي عن مؤشر تراجع العلوم الإنسانية والثقافة؛ حيث لم أكمل قراءة مقال هيلر (ولكني قرأته الآن)، كما أنني بالتأكيد لم أذهب لشراء نسخة من «The Scarlet Letter» أو أي رواية أخرى من القرن التاسع عشر لأبدأ في قراءتها من أجل المتعة.
والإجابة عن سؤال: «أين تكمن المشكلة؟» هي، أو يجب أن تكون: «أنا المشكلة»، مثلما كتب الفيلسوف الإنجليزي جيه. كيه تشيسترتون ذات مرة، وأي رد على السؤال حول ما حدث للعلوم الإنسانية يجب أن يتضمن الإجابة نفسها، فطلاب جامعة «هارفارد» الذين لا يستطيعون تحليل جملة معقدة من عصر النهضة الأميركي، هم جزء من المشكلة، وكذلك كاتب المقال الذي تلقى تعليمه في جامعة «هارفارد»، والذي يتحمل بانتظام مسؤولية الكتابة بأفكار عميقة عن «تلفزيون البوب» ولكنه لم يقرأ رواية كاملة من القرن التاسع عشر من أجل المتعة.
لقد قرأت صفحات من روايات الأدب الفيكتوري مؤخراً، وعادة ما أعود إلى هذه المنطقة المألوفة من أجل العثور على بعض الأفكار التي أبحث عنها، وقد بدأت كتباً كاملة، مع أفضل النيات في كل مرة، فعندما كانت عائلتي تشاهد إعادة عرض المسرحية الموسيقية «البؤساء»، قرأت المئات من الصفحات الأولى من رواية فيكتور هوغو، وحينها قرأت جزءاً كافياً للتخطيط لكتابة مقال يقارن ثقة هذا المؤلف بالأسلوب الخجول الموجود في الروايات المعاصرة، وهو المقال الذي كان يتطلب إنهاء رواية هوغو، ولكني لم أكملها، وبعد ذلك بدأت ألجأ إلى الكتب الأقل حجماً التي تعود إلى القرن التاسع عشر، فكلما قل الكلام كان أفضل.
وصحيح أنني أشعر بالإطراء لأنني أستطيع في الغالب أن أفهم بنية الجمل في هذه الكتب، ولكن من ناحية أخرى، أنا القارئ الذي تحدثت عنه كلايبو، وذلك لأنني مرتبط للغاية بالحاضر المُشتت، لدرجة تمنعني من الدخول بشكل كامل إلى لغة الماضي المعقدة.
كما أنني أشبه شخصيات أخرى في مقال هيلر أيضاً؛ حيث إنني أشبه ذلك الأكاديمي الذي تحدث عن تفضيله لتصفح مواقع الإنترنت على قراءة الروايات، وكذلك الأقران الذين تحدث عنهم ذلك الأكاديمي الذين يتصورون أنهم مثقفون؛ لكنهم لا يستطيعون منع أنفسهم من استخدام هاتف «آيفون» الخاص بهم، وذلك حتى في أثناء حضورهم للعروض المباشرة.
لكن دعونا ننتقل من فكرة جَلد الذات إلى التوصل إلى وصفة يمكنها علاج ذلك الوضع، فصحيح أنني لا أقرأ روايات القرن التاسع عشر لنفسي؛ لكنني أصبحت أقرأها للآخرين مؤخراً، وعلى وجه التحديد، لقد قرأتها بصوت عالٍ لأطفالي الأكبر سناً، وقد بدأت برواية «Pride and Prejudice»، والآن (في تجربة أكثر صعوبة قليلاً) نقرأ «Jane Eyre».
ولكن لا تقلقوا، فلن يكون هذا جدالاً حول كيفية إنقاذ العلوم الإنسانية من قبل الأشخاص المؤيدين لإنجاب الأطفال (على الرغم من أن أقسام اللغة الإنجليزية تعتمد بالفعل على عدد مستقر أو متنامٍ من السكان في سن التعليم الجامعي) ولكن بدلاً من ذلك، فإن الأمر يتعلق بأنه من المفارقات أن قراءة نَص صعب للأطفال الذين قد لا يفهمونه تماماً، يعد أسهل من قراءة الكتاب نفسه لنفسك، وذلك لأن القراءة للأطفال تجبر على الانفصال بشكل جذري عن الأشكال الأخرى للإلهاء، بطريقة يصعب على أي نظام شخصي بحت أن يضاهيها.
إن جوهر تراجع العلوم الإنسانية، على مدى الجيل الماضي وخصوصاً في عصر الإنترنت، هو رفض قبول فكرة أنه من الضروري اتباع نوع مشابه من الفصل.
ولطالما كان الهدف -وهو أمر مفهوم للغاية- هو الحفاظ على الملاءمة والاتصال بالسياسة والحياة المهنية وبفكرة تقدم العلوم الإنسانية، ولكن هذا المسعى لا يمكن أن ينتهي إلا بالتدمير الذاتي، عندما يكون الشيء الذي تحاول أن تربط نفسك به بشدة (الثقافة وروح الإنترنت في عصر الهواتف الذكية، على وجه الخصوص) هو في الواقع يلتهم كل العادات الذهنية المطلوبة من أجل بقاء نظامك الخاص.
فلا يمكنك ببساطة الحفاظ على النزعة الإنسانية الحقيقية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الرقمية؛ بل عليك أن تنفصل، على الأقل حتى نكتشف طريقة لتصبح شخصاً رقمياً، ولكن ليس بالشكل المدمن.
وقد كتب الأستاذ في جامعة «تمبل» جاكوب شِل، تغريدة على حسابه على «تويتر» رداً على مقال هيلر قائلاً: «لقد حددت العلوم الإنسانية مصيرها عندما رفضت التكيف مع الدور المطلوب للنقد الفكري اليميني لعلم الاجتماع والتكنوقراطية».
وبصفتي يمينياً، فإنني أميل إلى رؤية هذا الأمر وإثارته، وأقترح أنه إذا كنت تهتم بنقل العلوم الإنسانية عبر العصر الرقمي، فيجب أن تتطلع إلى الأكاديميات المسيحية الكلاسيكية بشكل أكبر من النظر إلى كلية مثل «هارفارد».
ولكن النسخة الأكثر تواضعاً من رأي شِل تتمثل في أن العلوم الإنسانية بحاجة إلى أن تدفع بوعي ضد النظام الرقمي، وأن تدفع الناس للانفصال بنفسها عنه، وأن تضفي ميزة على هذا الفصل.
ولكن يجب ألا يكون هذا الفصل متطرفاً مثل ذلك النوع الذي اقترحه مقال رأي حديث في صحيفة «وول ستريت جورنال» بعنوان: «يجب أن تكون الكلية أشبه بالسجن»، والذي ناقشت فيه مؤلفته بروك ألين الجدية غير العادية التي يتعامل بها الرجال المسجونون الذين تقوم بالتدريس لهم مع الأدب، ولكن ذلك قد يعني استبعاد كل رمز مميز من العصر الرقمي من الفصول الدراسية والمكتبات، وإغلاق الإنترنت، وقراءة الروايات بشكل يدفعك للانغماس في أعماقك. وقد يؤدي ذلك إلى تنمية مجموعة من المهارات حتى لو كانت ستقدم فائدة فورية أقل للحياة المهنية التكنوقراطية.
ولكن هل يعيد أي من هذا العلوم الإنسانية إلى مجدها السابق؟ لا، ليس في البداية، ولكن من أجل إعادة الحياة إلى أي شيء فإنه يجب أن نقوم بالحفاظ على بقائه أولاً.
* خدمة «نيويورك تايمز»