رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

المشروع العربي المتأخر... العثرات قابلة للعلاج!

صحيحٌ أن الفكرة العربيّة برمتها تعرّضت إلى اهتزازات وانكسارات كبيرة، وصحيح أيضاً أن عصر الآيديولوجيّات المتصارعة قد اضمحل إلى حد بعيد، مع سيطرة الشركات العابرة للقارات والحدود على المسرح العالمي؛ إلا أن البدائل التي تقدّمت إلى الميدان عن الفكرة العربيّة لا تشي بكثير من التفاؤل؛ لا سيما أن مسارات التطرف هي التي أصبحت أكثر انتشاراً على مختلف المستويات الدوليّة، وكذلك في المنطقة العربيّة.
لم يعد الحديث عن الفكرة العربيّة «دارجاً»؛ خصوصاً في الأوساط الشبابيّة التي فُتحت أمامها نوافذ العالم برمته، من خلال اقتحام وسائل التواصل الاجتماعي لمجمل نواحي الحياة، فصارت الأفكار التقليديّة التي تعكس «المدارس» القديمة تبدو وكأنها خارج سياقها الزماني والمكاني، ولا تبقي أي اهتمام يُذكر لدى تلك الأوساط.
الهدف الآن ليس الدفاع عن الفكرة العربيّة أو إعادة إحياء جذورها العقائديّة والسياسيّة، وبعضها قد تعرّض لانتكاسات هائلة على مر العقود، وليس الهدف حتماً بعث الحياة مجدداً في الأجساد العربيّة المتوفاة، أو البحث عن آليات لإنقاذ المشروع الجماعي العربي المتهالك، ولعل القطار قد فات على ذلك.
ولكن المطلوب الحفاظ على هذه الرابطة الثقافيّة والحضاريّة الجامعة للعرب، حتى ولو تباينت الرؤى السياسيّة والاستراتيجيّة، ولم تتمكن من الانتظام في مقاربة موحدة حيال القضايا والتحديات الهائلة التي تداهم المنطقة العربيّة من كل حدب وصوب. إن الحفاظ على الإطار العربي الجامع، حتى لو لم يكن مترجماً في مؤسسات فاعلة للعمل العربي المشترك، وبقي محصوراً في الإطار النظري، ينطوي على أهميّة كبيرة على أكثر من مستوى.
إن إبقاء الإطار النظري حيّاً من شأنه أن يحافظ على منظومة فكريّة في طور الجهوزيّة، ما يجعل العودة إليها متاحة في لحظة سياسيّة ما، قد تستدعي إعادة بناء الهيكل العروبي الذي لا يزال صالحاً إذا توحدت الرؤى والمقاربات، ولعل ذلك يفسح المجال مجدداً أمام إعادة تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك التي تعيش راهناً في ثلاجة الانتظار، بسبب الخلافات العربيّة- العربيّة العميقة.
ثمّة مقاربة أخرى تتصل بهذا الملف، تفترض البناء على المشتركات بين الاتجاهات المختلفة، والسعي الحثيث لتوسيعها. ومن أبرز تلك المشتركات ما يندرج في الإطار الاقتصادي والتجارة البينيّة، والبيئة، والتعاون الزراعي والصناعي والسياحي، وصولاً إلى القطاعات الحديثة، وفي مقدمها تكنولوجيا المعلومات.
إن تعزيز التبادل المعرفي العربي- العربي قابل للانطلاق من مساراتٍ بعيدة عن الخلافات السياسيّة، والتجاذبات التي لطالما تحكّمت في العلاقات المضطربة بين الدول العربيّة، بحيث يمكن النفاذ من خلالها نحو آفاق واسعة من التعاون الذي يحقق المصالح المتبادلة، بمعزل عن الاعتبارات السياسيّة والعقائديّة.
بطبيعة الحال، من غير المنطقي تبسيط المقاربات المعقدة بشكل يغفل التعقيدات التي حالت على مر العقود دون القيام بتطوير العلاقات العربيّة- العربيّة، والارتقاء بها إلى المستويات المأمولة، وهي تعقيدات عميقة ومركبة، وليست حتماً الظروف الراهنة مؤاتية لتجاوزها؛ ولا يبدو تجاوزها متاحاً، أو ممكناً، في لحظات الانفكاك العربي الكبير.
ولكن، للتذكير، فإن التقارب الأوروبي بين دول القارة منذ منتصف خمسينات القرن الماضي قد انطلق من الملف الاقتصادي، ومن قطاع الحديد والفحم تحديداً. وتدريجيّاً، اتسعت رقعة التنسيق لتصل إلى قطاعات حيويّة عديدة، وتُوجت بتوحيد العملة الأوروبيّة التي سرعان ما احتلت موقعاً متقدماً في الأسواق العالميّة.
إذا كان المشروع الأوروبي يمر بمأزق عميق حالياً نتيجة الحرب الروسيّة على أوكرانيا، ونتيجة الحاجة لإعادة تحديد دور أوروبا على الصعيد الدولي، وطبيعة علاقاتها السياسيّة والعسكريّة مع الشرق والغرب؛ فإن المسارات الاقتصاديّة بين دول القارة تبقى تسير وفق المصالح المتبادلة التي تفرض نفسها كقوة دفع كبيرة، تحتّم الحفاظ عليها وتطويرها.
لا تستقيم المقارنة السياسيّة بين المشروع الأوروبي والمشروع العربي لعديد من الأسباب، ولكن الأكيد أن التجربة العربيّة التي بقيت قاصرة عن موازاة نظيرتها الأوروبيّة، تستحق أن تنال دفعاً متجدداً يتيح لها أن تتقدّم في مسارات جديدة كانت معطلة على مدى سنوات.
هذا الطرح ليس منفصلاً عن الواقع؛ بل يمكن تصنيفه بأنه «المثالي الواقعي».