أحمد محمود عجاج
TT

الشعبوية والدبلوماسية والآيديولوجية: مخاض بريطاني مستمر

أخيراً، وقعت بريطانيا والاتحاد الأوروبي على اتفاق يعدل بروتوكول آيرلندا الشمالية الذي سبب أزمة كبرى بينهما، وكان الترحاب بالاتفاق كبيراً، لدرجة أنه اعتبر، يا للمفارقة، نصراً كبيراً لبريطانيا. لكن إعلان هذا الاتفاق هو إشعار ببدء مراسم دفن بروتوكول آيرلندا الشمالية، الذي كان هو الآخر نصراً للسيادة البريطانية؛ وفي معارك الانتصار المزعومة يمكننا أن نلحظ ثلاثة مؤشرات بالغة الأهمية: عقم الشعبوية، وخطورة الآيديولوجية، ونجاعة الدبلوماسية. فالشعبوية تنحى دائماً إلى تسطيح الأمور المعقدة، وتسخيف الآراء العاقلة، والميل المقصود لتأجيج العواطف والغرائز، وإقناع الناس بأن الحل السحري هو بيد القائد الملهم مثل أن قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا يلزمها إلا قائد وإرادة صلبة، وبعدها ستحقق العالمية، وتعاد للمواطنين الكرامة والعزة والرفاه. بهذه البساطة، أدار زعماء حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي حملتهم الدعائية، فكان التلاعب بالمعلومات وبث الأضاليل كوسيلة للإقناع، لأن الشعبوي لا يهمه الأخلاقية، بل الغاية عنده تبرر الوسيلة؛ لذا روج هؤلاء الزعماء أن اللاجئين السوريين المسلمين سيغزون بريطانيا، واستخدموا صور طوابيرهم، وهم يهربون إلى أوروبا نجاة بأنفسهم من النظام السوري، بأنها جحافل مقبلة إلى شواطئ بريطانيا؛ كما نشر جونسون أكاذيب علقها على حافلة ركاب تقول إن بريطانيا تدفع 350 مليون جنيه أسبوعياً إلى الاتحاد الأوروبي، وبوسع بريطانيا استرجاعها وإنفاقها على النظام الصحي في بريطانيا؛ وبما أن المواطن البريطاني يعاني من تباطؤ النظام الصحي، كان طبيعياً أن يُصدق، ويُصفق، ويُصوت للخروج؛ كذلك روج آخرون مثل نايجل فراج، إلى خطر اندثار الثقافة البريطانية من جراء الحدود المفتوحة مع أوروبا، خصوصاً من مسلمين وافدين، ومن مهاجرين قتلة ومغتصبي النساء. بهذا المنطق أدار الزعيم الشعبوي جونسون حملته، ومعه شعبويون آخرون واعتبروا أن التصويت هو تحقيق لإرادة الشعب، وأن هذه الإرادة فوق كل شيء.
الآيديولوجية هي الأخرى لعبت دوراً في عملية التمويه، لأنها تؤسس لقناعة راسخة في العقول تجعل معتنقيها يتعامون عن الحقائق البادية للعيان؛ فالمؤدلج يعتقد أنه محق، وأن مسيرته تحرسها عناية إلهية، أو شعبية، وأن النصر حليفه مهما كانت الصعاب. وتتقاطع الآيديولوجية مع الشعبوية لتمنح السلطة قدسية في قراراتها، وتلزم المؤمنين بأن يتفانوا في سبيلها، ولذلك فإن مؤيدي الخروج البريطاني رأوا أن ذلك بداية لاستعادة دور بلادهم التاريخي «العظيم» الذي خسرته منذ دخولها هذه المنظومة الأوروبية. لكن الآيديولوجية (المفرطة) تقود المؤمن دائماً إلى هلاك نفسه، وتدمير منجزاته، وتأخذه دون أن يشعر إلى أماكن لا يكسب فيها أبداً؛ هذا ما شعر به المواطن البريطاني المنخدع، لأ لتصبح لا ينال من كل مزاعم هؤلاء شيئاً، بل عصفت به منذ خروجه أزمات تلو أزمات، ولم تكبر بريطانيا بل صغرت، وتناقص دورها أوروبياً وعالمياً. فالمواطنون لم يعودوا يرون في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أولوية، بل أصبح اهتمامهم، حسب استطلاعات الرأي، أقل من عشرين بالمائة بعدما كانت النسبة تصل إلى ثلثي الناخبين؛ الاهتمام الآن محصور الصحة والشيخوخة ومحاربة التضخم ومعالجة الاقتصاد، وما عداه تحطم على أرض الواقع.
هذا الاندماج بين الشعبوية والآيديولوجية لم تفككه إلا الدبلوماسية العاقلة، لأنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن توظيفها لوقف التدهور والعودة للوراء بأقل قدر من إهدار الكرامة الوطنية؛ فالحكومة البريطانية الحالية أصبحت تدرك تماماً أن طريقها مسدود، وأن خروجها من النفق، يستلزم الاعتراف بالواقع، والابتعاد عن الشعبوية والآيديولوجية، والتركيز على المصالح من خلال الاعتراف بالجغرافيا، وأرقام الاقتصاد، والقراءة الصحيحة للتاريخ؛ هذا الاعتراف سببه الأساسي أنها إذا لم تبدأ رحلة العودة فإنها ستخسر السلطة، لأن الذين انتخبوها لن يمنحوها أصواتهم في الانتخابات المقبلة، وأن حزباً جديداً (حزب العمال) سيتسلم دفة السلطة وسيعيد إدارة السفينة باتجاه أوروبا مجبراً وليس مختاراً. ولكيلا تخسر الحكومة رهانها على تأييد الشعب، استخدمت الدبلوماسية سلاحاً أخيراً لإقناع أوروبا بأنها منفتحة على الحوار، ولتزويق أي اتفاق على أنه انتصار لكيلا تصطدم بالمؤدلجين والشعبويين. هذا ما فعله رئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك بإقناعه رئيسة المفوضية الأوروبية بأنه جاد بالمصالحة، وأنه يلتزم بكلامه، ومستعد أيضاً للتخلي عن فكرة إلغاء كل القوانين البريطانية المتجانسة مع السوق الأوروبية؛ بهذا كسب ثقة الاتحاد الأوروبي الذي لا يريد خسارة بريطانيا في ظل أزمة حرب أوكرانيا، وكان الاتفاق على تعديل البروتوكول بطريقة توحي أن بريطانيا نالت ما تطالب به، بينما هي في الواقع رضخت لسلطة المحكمة الأوروبية كحكم نهائي في أي خلاف، ورضيت بأن توجد حدود بين آيرلندا الشمالية وبريطانيا؛ وكل البنود الأخرى في الاتفاق هي تجميلية لتمكين رئيس الوزراء من إقناع المؤدلجين وحمل الشعبويين على القبول بما حققه من انتصار.
بهذا الاتفاق، نال رئيس الوزراء رضا رجال الأعمال، والمؤيدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي، والمعلقين والمحللين الذين رأوا ضرورة تصحيح الخلل، وبهذا التأييد صمت المؤدلجون والشعبويون، ورضي قسم منهم على مضض، وقسم آخر صفق للانتصار بينما ينتظر فرصة سانحة؛ كما زادت شعبية رئيس الوزراء قليلا.
ولم يبقَ أمامه سوى عراقيل صغيرة مع نواب متشددين في حزب المحافظين، ونواب آيرلندا الشمالية من الاتحاديين الذين سيقبلون رغماً عنهم؛ وبعد التصديق على الاتفاق سيتضح للجميع أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان من بوابة متحركة دائرياً بقيت تدور فيها، ولم تخرج أبداً؛ فالحكومة البريطانية تعرف ذلك والاتحاد الأوروبي يدرك ذلك، وكلاهما يتستر ما دام لا توجد بدائل.
الواقع الذي لا يُنكر أن حكومة حزب المحافظين أخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بزعم العالمية والرفاه والاستقلال، ولم تحقق شيئاً من ذلك كله، بل حققت درساً بليغاً مفاده أن أخطر شيء على حياة الأمم؛ الأدلجة المفرطة والشعبوية.