استكمالاً للمقال السابق الذي أشرت فيه إلى أن السياسة والعلم والفن مشاريع قابلة للإفساد إن تسللت إليها الآيديولوجيا، أو في حال أقحمت هذه المنظومات الثلاث نفسها بالآيديولوجيا فإنها ستفسدها بالضرورة. وهذا الأمر يعني أن العلم والسياسة والفن لا دين لها، وتظل منجزات حضارية، وجزءاً من المشترك الإنساني والموروث الثقافي للبشرية جمعاء. وضمن هذا السياق، أكدتُ أن الاهتمام بعملية الفصل المنهجي والفكري بين تلك المنظومات العقلانية الثلاث والآيديولوجيا؛ مسألة في غاية الأهمية والخطورة لأي مشروع نهضوي وتربوي، وشرط سابق وضروري لأي عملية حوكمة إدارية أو ترشيد عقلاني للمؤسسات الحكومية بشكل عام، ولمؤسسات التعليم بشكل خاص. واستعرضتُ في هذا الصدد الجهود الإصلاحية للقيادة الوزارية السابقة في التعليم العام وما قدمته من منجزات تاريخية وغير مسبوقة من حيث تحديث المناهج المدرسية في كل ما يتصل بالعلم والسياسة والفن، فنقحت ما يقارب من مائتي ألف خلل معرفي في تلك المناهج المدرسية. كما أكدتُ ضرورة حرص القيادة الوزارية الحالية على اتباع نهج الاستمرارية في الحفاظ على المنجر التاريخي للوزارة السابقة من دون القطعية مع إصلاحاتها أو تغييرها. بيد أنَّ المقال السابق لم يتناول إصلاحات القيادة الوزارية السابقة في مؤسسات التعليم العالي والجامعات الحكومية والخاصة، وهو ما سنتطرق إليه في هذا المقال.
ففيما يتعلق بإصلاح منظومة التعليم العالي، ومن ضمنها مراجعة تخصصات العلوم السياسية، حاولت القيادة الوزارية السابقة الحد من المناهج والمقررات الجامعية التي توظف الدين لخدمة أهداف حزبية وطائفية تتجاوز حدود الدولة الوطنية، وتشجع على المغالاة وكراهية الآخر. وبذلت كل السبل في رسم الحدود المنهجية للتخصصات العلمية بهدف احترام قواعدها ومعاييرها العلمية من داخلها، التي كانت في عهود مضت ملكاً فكرياً مشاعاً لأساتذة من خارج الحقول المعرفية لأصحاب التخصص الأصلي. ففي حقبٍ زمنية ليست ببعيدة، حفز الغرور الآيديولوجي والأنا المتضخمة عند بعض الأساتذة العقائديين من ممارسة نمط مغالٍ فيه من الهيمنة والوصاية الفكرية على باقي التخصصات الأكاديمية، وتهميش مناهجها ونظرياتها وقواعدها المعرفية، وكل مسوغات استحقاقات تلك الوصاية لهؤلاء كانت امتلاكهم أدوات الخطاب الوعظي، وبعض أدبيات المعرفة الشرعية. ووصل الحال في عملية الوصاية الآيديولوجية والهيمنة الفكرية على التخصصات الأخرى، أن يُدرس أستاذ متخصص في الزراعة مناهج الثقافة الإسلامية في أقسام العلوم السياسية والقانون والتخصصات الأخرى، ويُقحمُ نفسه في تحديد وتنقيح المناهج العلمية لتلك التخصصات، بل ويتطفل في المرجعية الفكرية للممارسين المتخصصين في الحقول المعرفية الأخرى التي لا تتقاطع كلياً مع تخصصه الدقيق في كلية الزراعة.
إلا أن الأمرَ يزدادُ تعقيداً وتردياً عندما يعاني المتخصص في الحقول المعرفية النظرية والطبيعية من ازدواجية على مستوى الوعي والمعرفة بين التزام معايير ومناهج تخصصه الأصلي، وإخضاعها لمعايير آيديولوجية من خارج تخصصه الأكاديمي معتقداً أنها تسمو عليها وتَفُوقها من حيث القوة التفسيرية. وبسبب هذه الازدواجية في الوعي الفكري، والتحليل العلمي، أُصيبت موضوعات العلوم السياسية بتخمة الآيديولوجيا، وتشبعت مفاهيمها النظرية المجردة الكونية والمحايدة أخلاقياً وثقافياً، كمفاهيم القوة، والدولة الوطنية، والسيادة، والمصلحة القومية، والتنمية السياسية بلوثة النماذج الإرشادية المؤدلجة. فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ هيمنة النموذج الإرشادي الآيديولوجي وطغيانه في طرق البحث، والتحليل السياسي، والاستدلال العلمي على منهجية تفكير أحد أساتذة العلوم السياسية، أفضت إلى أن يؤدلج ويتلاعب مفاهيمياً بمعنى مصطلح «القوة الوطنية» ماسخاً إياه إلى مصطلح «القوة النبوية». ورغم أن مفهوم «القوة الوطنية» يُعدُ أحد أهم المفاهيم الاستدلالية والمفتاحية المعنية في فهم التفاعلات الدولية بين الدول الوطنية المحكومة باستراتيجيات ومصالح دولية ومنظمات عالمية في غاية التعقيد، فإن التشوه الآيديولوجي في منهجية التفكير أرغمته على أن يخلطها مع مفهوم «القوة النبوية» التي تعبر عن نموذج تقليدي لتنظيم سياسي لا يتقاطع إطلاقاً من حيث السياق التاريخي، والبنية الثقافية والفكرية والاجتماعية والعسكرية، والتفاعلات الدولية، وشكل نظام الحكم، وطبيعة القيادة السياسية، وصناعة القرارات الاستراتيجية، والمواثيق والقوانين الدولية، مع نموذج الدول الوطنية. فلا السياق الاستدلالي ولا مخرجات هذا البحث المؤدلج في موضوعات العلوم السياسية يمكن لهما أن يتسقا مع قواعد ومعايير العلم الحديث، ومن المحال اعتبار مفرداته أو المفاهيم النظرية الموظفة فيه جزءاً من الخطاب العلمي المتبادل بين العقول المعرفية المتباينة ثقافياً عبر العالم نظراً لاختلاف دلالات المعنى، والمنهج المتبع، واستحالة القياس، ومفارقات اللحظة السياقية والتاريخية بين الدولة الوطنية والنبوية، والأهم من كل ذلك تفريغ المفهوم النظري من محتواه العلمي المتفق عليه دلالياً بين النخب العلمية إلى مضامين عقائدية وثقافية بأفق خرافي ضيق وبسيط. وبسبب هؤلاء الباحثين العقائديين، أصبح خريجو العلوم السياسية وتخصصات العلوم الإنسانية والطبيعية الأخرى لا يختلفون كثيراً عن خريجي العلوم الشرعية؛ من حيث الوعي العلمي ومنهجية التفكير، وأسهموا بالتالي في خروج جامعاتنا من الريادة العالمية، وفي تآكل تصنيفاتها الأكاديمية على مستوى العالم.
وهيمنة الأنساق الآيديولوجية لا تُفسدُ فقط التعاطي الموضوعي والعلمي مع موضوعات العلوم السياسية، بل هي أيضاً تشوه المعنى الحقيقي للعلم الحديث الذي يخضع لمعايير المشترك الإنساني واللغة العلمية المحايدة من دون أن تكتسب دلالاته وقواعده وحجيته ومنطقه من مسوغات دينية. فالعلم لا دين له ويبنى على مناهج ومعايير كونية ومجردة تنطبق في أي زمان ومكان. والمؤسف أن كثيراً من المقررات الجامعية والأبحاث العلمية ما زالت تعاني من تشوهات آيديولوجية في مفردات وهياكل أبحاثها. وعطفاً على المثال السابق، فالتحوير الآيديولوجي لمفهوم القوة أو الدولة الوطنية وإعادة إنتاجها في أنساق عقائدية كالدولة النبوية أو القوة النبوية، سيعيق حتماً تشكيل أي نظام لغوي - علمي ذواتي مشترك (intersubjective language) بين الأطراف الأكاديمية المتباينة ثقافياً ولغوياً في مختلف جامعات العالم. وبالتالي لا يمكن لتلك الذوات المتباينة في تلك الجامعات المختلفة أن تتبادل وتتفاوض حول المعاني والمفاهيم المشتركة عن موضوع علمي يشكل هاجساً ومعنى موحداً لديهم، لأن «الفهم الذواتي» في هذا السياق يجب أن يعتمد على الإدراك الجمعي الكلي الذي ينقل لهم حقيقة الواقع كنظرية مفاهيمية عامة ومجردة، وكممارسة حسية مشتركة، وليس كتجربة ذاتية خاصة، وبمعانٍ ودلالات وتخريجات ثقافية محلية.
ولأن هذا هو حال أدلجة العلم مع هذا الباحث وغيره كثير من الأساتذة الآخرين الذين يؤدلجون تخصصاتهم المعرفية ويرهنون مناهج أبحاث حقولهم المعرفية للتخصصات العقائدية الأخرى، فسنجد أبحاثهم عن فلسفة العلم ومضامينها أو حتى عن مناهج البحث العلمي تعج بأخطاء كارثية لا يقع فيها طالب ماجستير في سنته الأولى. فالباحث نفسه المشار إليه آنفاً لم يستطع التمييز بين المرجعيات الفلسفية؛ كالبنائية وما بعد الحداثة ولا الفرق بينهما، أو حتى أبرز المفكرين فيها، وخلط بشكل عشوائي بين كل مفرداتها ودلالاتها المعرفية. ومرد هذا الخلط المفاهيمي والافتقار إلى امتلاك القدرة النظرية للتمييز بين المدارس الفكرية يعود إلى تشوه تركيبته الذهنية التصورية، بسبب تغلغل النموذج الإرشادي الآيديولوجي في وعيه، الذي انعكس في تصوره للعلم والمعرفة.
والمحزن في هذا كله أن الوصاية الآيديولوجية والهيمنة العقائدية أفضتا إلى إخضاع الحقول المعرفية والتخصصات العلمية إلى حالة مزرية من التبعية المنهجية والإبستمولوجية لخطابها، وأدواتها، ومعاييرها البيانية والخطابية. وبسببها أمست بعض التخصصات الجامعية في العلوم الإنسانية والطبيعية مجرد رديف للأفكار العقائدية التي تحاكمها وفق قواعدها وضوابطها الآيديولوجية، وتحدد مجالاتها، وطبيعة أبحاثها، وإشكالياتها، ودراسات الحالة فيها، وحدودها المنهجية، وشروطها المعرفية. ولذلك لن يصاب بالدهشة أي باحث أكاديمي جاد مسكون بروح وشروط الأكاديميا الكونية في حال وجد أن الجامعة تعج بموضوعات «الاقتصاد الإسلامي» و«علم الاجتماع الإسلامي»، و«السياسة الإسلامية» و«العلاقات الدولية في الإسلام»، و«نظرية المعرفة الإسلامية»، و«الإعلام الإسلامي»، و«الطب النبوي». ورغم أنه لا مندوحة من فهم هذه الموضوعات ضمن سياقها التراثي، ولحظتها التاريخية، وأدواتها ونظرياتها الخاصة بها، فإنه لا ينبغي أن تهيمن على الأسس النظرية والقواعد المعرفية الحاكمة في الحقول المعرفية الأخرى، أو تتلاعب بمفاهيمها، وتؤدلج نظرياتها، وتستلب ملكيتها وحقها الخاص في تعريف منتجها العلمي ومكتسباتها الحضارية، وبالتالي تقولب معانيها، وتزيف دلالاتها العلمية ضمن فهمها التراثي الخاص بها أو في إطار تصورها بأن مناهجها ومعارفها مطلقة وتسمو على المعايير العلمية للحقول المعرفية الأخرى. وقد امتدت هذه الهيمنة الآيديولوجية في الجامعات أيضاً إلى منع تدريس أي مقررات أو ممارسات أكاديمية تتعلق بالفن كمنتح حضاري وإنساني لا دين له. وفي سياقات تاريخية استخدم أوصياء المعرفة العنف المادي للحيلولة دون تدريس أي شكل من أشكال الفنون المسرحية، والتشكيلية، والسمعية، والبصرية، والأدائية.
بيد أنه بفضل السياسات الوزارية السابقة تم إحياء المقررات والتخصصات الفنية في الجامعات السعودية أسوة بكل جامعات العالم، لأننا جزء من هذا العالم ومشاركون أساسيون في تراكمه المعرفي ورسم حضارته الإنسانية في السياسة والعلم والفن. كما أصرت القيادة الوزارية السابقة على احترام الحدود المعرفية والفصل المنهجي للتخصصات العلمية، وتحريرها من براثن التبعية والوصاية الفكرية. ووظفت في سبيل ذلك كل الأدوات والإمكانيات القانونية والإدارية المتاحة للحد من هذه الظاهرة عبر مجموعة متنوعة من عمليات الضبط المؤسسي والإداري، وتعديل اللوائح القانونية الجامعية، وتنقيح المناهج. إلا أنه ورغم كل ذلك الإصلاح الوزاري في مجال التعليم العالي، فإن عملية التحرر من رموز الوصاية الفكرية لا تزال عملية شاقة، ولم ينجز فيها الكثير بعد، وتستوجب عملاً منظماً دؤوباً وقيادات تاريخية، وهي شرط سابق وضروري لأي عملية ترشيد عقلاني أو حوكمة إدارية في معاقل التنوير، والاستبصارات المعرفية، والنهضة الحضارية، أي في الجامعات.
* أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود