ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

الدب

بعد انتهاء احتفالات باريس، عدت إلى بيتي في مدريد، وانصرفت مرة أخرى لقراءة رواية «الدبّ» لويليام فوكنر، ربما للمرة العاشرة أو أكثر . من حين لآخر، أشعر بالحاجة للعودة إلى قراءتها لأنها من أجمل ما وضعه هذا الكاتب. لست أدري إن كان هو على علم بأن جميع الغابات والبحيرات والقفار موجودة في تلك المنطقة من الميسيسبي الأميركي: من الصحاري العربية، إلى أدغال الأمازون الفارهة، وكل البطاح التي اجتازها الإنسان بالحديد والنار لبناء المدن التي سكنها.
عندي أن هذه الرواية الرائعة هي من أنجح ما كتبه فوكنر. كل الغابات والصحاري تندثر أمام أقدام الإنسان الساعي إلى بناء السكك الحديدية والمصانع والمدن. والمدافع الوحيد عن تلك القطعة من الميسيسبي هو «أولد بن»، الدب المهيب الذي قضى على عدد كبير من البشر، ويعاني عرجاً يمنعه من الركض لكن ليس عن الصراع والدفاع عن ذلك الجزء من الغابة الذي تنافسه عليه تلك الزمرة من الجشعين الذين ما زال بينهم بعض العبيد. ينفق الدبّ بعد صراع طويل دفاعاً عن مرتعه، مثل الأفاعي، هائماً على وجهه ومدمراً كل ما يحيط به في الغابة، إلى أن يصرعه أولئك القنّاصون الذين يعرفون معاقرة الويسكي، لكنهم لا يذهبون إلى المدارس ويتبادلون البنادق في سعيهم الدؤوب وراء الطرائد المفترسة. معظم الشخصيات في هذه الرواية من القاصرين، ولا يخفى على القارئ أن بعض أسمائهم مستعار: مايور إسبانيا، جيم تينّي، الجنرال كومبسون والكولونيل سارتوريس . بطل الرواية لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره في بدايتها، ويكاد يبلغ سن الرشد في النهاية عندما يرفض باعتزاز الإرث لتمويل مهمته. ولا شك في أنهم زمرة رعناء، ربما أميّون، لكن تدفعهم قوة جارفة كتلك التي حدت بنظرائهم إلى نشر المدن في العالم على حساب تلك المناطق الطبيعية التي كادت اليوم تندثر.
كل الغابات والصحاري التي نجدها مجموعة في تلك المنطقة من الميسيسبي أصبح أثراً بعد عين، ليستقر مكانها الإنسان ويبني المدن التي تربط القطارات والسيارات بينها، وترتفع فيها المصانع الكبيرة التي يعمل فيها البشر كالنمل. ماذا كان سيقول «بن العجوز» لو قدّر له أن ينطق؟ لعله كان سيطلق سهيفاً غاضباً عندما يرى البشر كيف قضوا على الغابات والشواطئ والبحيرات والأنهر، لتشييد المستشفيات وشق الطرقات.
هذه الرواية التي تحمل عنواناً بسيطاً «الدبّ»، تدفعنا إلى التفكير، والنظر إلى أولئك القناصين الصغار كمدمّرين تحركهم نار لا تنطفئ، ويقضون على الطبيعة لبناء المدن والمصانع وتعرية الأرض من الغابات والبحيرات التي تسرح فيها حرة الحيوانات المفترسة. وقبل أن يلفظ «بن العجوز» أنفاسه الأخيرة، يفقد صوابه، وينقضّ على الأكواخ والأشجار، والكلاب التي تتصدى له، فيضاعف قواه ويرتكب مجزرة رهيبة. وعندما ينفق في النهاية، يبدو كما لو أن تلك الغابات والبحيرات التي كانت تسرح فيها الحيوانات قبل قدوم البشر إليها، قد اختفت إلى الأبد.
وفي الرواية أيضاً ما يشبه الانتقال من حالة بدائية تتلاشى بصورة تدريجية لتقوم مكانها مدن حضارية، ومعاهد ودور للسينما، وجامعات يدرس فيها الناس ويتعلمون آداب الحياة وفنونها، خلافاً لأولئك الذين قضوا على «بن العجوز» بعد أن جازفوا بحياتهم عندما تصدّوا له وحيداً يدافع عن الغابة والطبيعة حتى مماته. وستأتي بعد ذلك شركة لصناعة الخشب تحتلّ مكان الأشجار، والأنهر الباسمة، وآلاف الحشرات والعصافير التي كانت تغرّد هناك. «الدب» رواية احتجاجية ضد العالم المتحضّر، ودفاع مستميت عن البدائية، لكن رغم ذلك، ثمّة إجحاف عميق في المتعة التي نشعر بها عندما نقرأ مثل هذه القصة الرائعة. فالحضارة واقع لا مجال للعودة فيه إلى الوراء، والذين يقرأون هم أفضل من الأميين الذين يتقنون استخدام البندقية ولم يقرأوا كتاباً في حياتهم ويمضون أيامهم يعاقرون الخمر غارقين في الملذات. والحضارة، رغم الجهود الأدبية الجميلة التي تحنّ إلى الماضي، هي واقع يتبدّى لنا في أعماق الرواية. فالشباب المتخرجون في المدارس والجامعات، والنساء والرجال المثقفون الذين يتمتعون بالمتاحف ومشاهدة الأفلام السينمائية، ويقرأون، يناون يوماً غبّ اليوم عن المناهل التي ارتوى منها آباؤهم وأجدادهم. ما هو الأفضل إذن؟ آلاف الحشرات المزعجة والأفاعي السامة والحيوانات المفترسة في الغابات، أو المدن التي فيها الأطباء والممرضات والمستشفيات لمعالجة المرضى والعناية بهم؟
الصفحات الأدبية خادعة، فهي لا تحدثنا عن الأفاعي والآفات التي تدمّر تلك المناطق، والتي تليها حياتنا المتحضرة حيث يتاح لنا أن نقرأ روايات رائعة مثل «الدب»، من غير أن نقع تحت تأثير إغراء وحشية العالم البدائي الذي ينتصر فيه الإنسان على الحيوان وينطلق في مسيرة الحضارة الطويلة.
جاءتني هذه الخواطر عند قراءتي رواية فوكنر والكثيرين الذين حاولوا تقليده. لا شك في أنه من أكبر كتّاب الرواية في القرن العشرين، ومن أفضل الذين ملكوا ناصية اللغة الإنجليزية التي طوّعها وأرجعها إلى حالة من النقاء التي يصف بها قفزة الإنسان إلى عالم ناطحات السحاب التي تحجب الشمس، فتضرم فينا الحنين إلى تلك الأيام عندما كان أجدادنا يقتحمون الغابات، ويسيطرون على الأنهر والوهاد والجبال، مدفوعين بالحضارة التي كانوا يومها عاجزين عن فك رموزها. وهذا بالتحديد ما هو استثنائي في الأدب: ينقلنا لنعيش في الماضي، في الحياة البدائية الأولى، ويذكّرنا بالمطارح التي جئنا منها، فنحن جميعاً كنّا أميين وشرسين مثل الأفاعي التي قهرناها لنبني المدن حيث نعيش في رعاية المستشفيات والأطباء، وحماية الخدمات التي توفرها لنا الحياة العصرية.