أحمد محمود عجاج
TT

الحلم البريطاني بالعالمية: مرارة الواقع وعذوبة المتخيل

كان الحلم في أثناء حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي تحرر بريطانيا وانطلاقها إلى العالمية، وكان على رأس هذه الحملة الحالمة رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، و«مجموعة الأبحاث الأوروبية» التي تضم 20 نائباً من حزب المحافظين، علاوة على يساريين؛ على رأسهم اليساري المتشدد الذي قاد حزب العمال بعد «بريكست»؛ جيريمي كوربن... كان يوجد إجماع على العالمية في الأحزاب كافة؛ وإن بنسب متفاوتة، وبطرق مغايرة. هذا الحلم بالعالمية دائماً مترسخ في عقول أبناء الإمبراطوريات، مثله مثل البركان ينتظر لحظة اهتزاز لكي يلفظ حممه للفضاء الخارجي؛ وهذا ما نشهده الآن في الحرب الروسية - الأوكرانية، وفي حلم الخلافة عند المسلمين، وسعي الصين لاسترجاع الماضي. لكن ما يميز الحلم البريطاني عن غيره أنه يظهر في ديمقراطية متجذرة تُعرض فيها كل الخيارات على الناس، ويوجد فيها نواب وسياسيون متمرسون يميزون تماماً بين الواقع والحلم؛ ومع هذا سقطت بريطانيا في هذا المطب، ووصلت الآن لمرحلة أصبح الفارق فيها بين الواقع والحلم كبيراً.
تعيش بريطانيا الآن أزمات وليس أزمة؛ أزمات اقتصادية وحزبية واجتماعية واقتصادية وسياسات خارجية، وهي مثل سفينة تدفعها الرياح بقوة لشاطئ صخري، وفي كل مدة يختار البحارة قبطاناً يظنون أنه قادر على تغيير مسارها، ليجدوا أنهم يقتربون أكثر من الشاطئ. ويبدو أن القباطنة السابقين كانون يعتمدون بوصلة الآيديولوجية وليس بوصلة الواقع ومعالجته؛ فرئيس الوزراء الأسبق جونسون كان يصر على أن بريطانيا ستصل إلى العالمية، ويرفض أن يتفاوض مع «الاتحاد الأوروبي» إلا على شرط القبول بما يعرضه عليهم، على اعتبار أن بريطانيا قادرة على الانفصال عنهم، والعيش بوصفها قوة عظمى، وأنهم سيخسرون قوة أوروبية مغيرة لموازين القوى في القارة الأوروبية؛ لهذا رفض أن يلتزم باتفاق آيرلندا الشمالية رغم أنه وقعه، وطالب بتغيير بنوده بما يتلاءم مع مصالحه؛ ورئيسة الوزراء ليز تراس، التي خلفته لأسابيع في السلطة انطلاقاً من «بريطانيا العالمية»، تضخم الـ«أنا» لديها لدرجة أنها عدّت أن رئيس وزراء فرنسا؛ الدولة الأقرب لبريطانيا جغرافياً وبوابتها التجارية للقارة الأوروبية، ليس صديقاً لبريطانيا؛ وقبلهما حاولت رئيسة الوزراء تيريزا ماي أن توفق بين العالمية والواقع، لكن اليمين المتشدد واليسار المتشدد أجهضا محاولتها، وسمحا لبوريس جونسون بأن يصل للسلطة ومعه تردت العلاقة مع أوروبا، ولم يستطع أن يُعوض ذلك بعلاقة تجارية قوية مع الولايات المتحدة رغم التقارب والانسجام الكبير بينه وبين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب؛ هذا يؤكد حقيقة واحدة أن «الآيديولوجية»؛ المتمثلة في الحلم الإمبراطوري، وجه آخر لـ«الشعبوية» التي تقنع الناس بأن الزعيم لديه الحل السحري، وأن انتخابه سيجعل كل شيء ممكناً.
تجد بريطانيا نفسها اليوم في وضع صعب جداً؛ عملتها في انخفاض لا سابق له، ومديونيتها في تصاعد (85.4 من الناتج المحلي الإجمالي)، وعلاقتها متوترة مع الاتحاد الأوروبي، وعلاقتها مع أميركا مرهونة بحل الخلاف مع الاتحاد الأوروبي، واقتصادها هو الأقل نمواً في «مجموعة الدول الصناعية السبع»، بل هي على حافة كساد اقتصادي، وتحتاج بنيتها التحتية إلى إنفاق المليارات من الجنيهات، وتعيش إضرابات عمالية متصاعدة، ونظامها الصحي يتهاوى، وقدراتها العسكرية تحتاج في عجالة إلى استثمارات بالمليارات؛ هذا الواقع لم يعد للمؤدلجين القدرة على إخفائه؛ لأن المواطن بدأ يشعر به، وأصبحت الحكومة أمام حلين: الاستمرار في سياسة الأدلجة وخسارة الانتخابات المقبلة، أو تغيير دفة السير، وبدء الاعتراف بالواقع، وإيجاد حلول وسطية. ووفق ذلك؛ يبدو أن رئيس الوزراء الحالي، ريشي سوناك، اختار الخيار الأخير، وبدأ رحلة إصلاح البين مع الاتحاد الأوروبي؛ لأنه الباب الأوحد لإعادة العلاقة القوية مع الولايات المتحدة الأميركية، ووسيلة ضرورية لتنشيط الاقتصاد والتوصل إلى اتفاقات تنقذ الاقتصاد البريطاني المختنق، وتشبك بريطانيا دفاعياً بأوروباً في وقت تعيش فيه القارة حرباً مصيرية مع روسيا الاتحادية. لكن رئيس الوزراء سوناك؛ الأكثر تأييداً للخروج من الاتحاد الأوروبي، والمضطر لتغيير رؤيته، يواجه اليمين المؤدلج في حزبه، وقد ينتهي به الأمر إلى انشطار حزبه أو خروجه من السلطة بانقلاب داخلي.
كل هذه الأمور تؤشر إلى حقيقة قوية هي أن القناعات الآيديولوجية خطرة جداً إذا ما تجاوزت الحدود؛ فـ«الآيديولوجيا» في تعريفها الأبسط هي مجموعة من قيم ومبادئ تربط الناس بعضهم ببعض، ويتوافقون عليها للقيام بخطوات معينة؛ بعبارة أخرى؛ هي شرعنة العمل السياسي. لكن «الآيديولوجيا» لها وجه آخر يتخطى التعريف البسيط وينطوي على رؤية مثالية تحمل معايير أخلاقية ومفاهيم تاريخية، وسيكولوجية، تدفعها إلى إعادة تركيب العالم أو رفع صاحبها إلى موقع ريادي عالمي؛ ولعل الفاشية والنازية التوليتارية خير مثال على ذلك. ووفق هذين التعريفين؛ نرى أن رئيس الوزراء البريطاني ينتمي إلى التعريف الأول، ويحاول أن يجمع أكبر قدر من الناس على الخطوات التي يقوم بها؛ وأولاها حل مشكلة «بروتوكول آيرلندا الشمالية»، ثم الانطلاق إلى تفكيك العقد الأخرى في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي؛ وفي سبيل تحقيق ذلك، لا بد له من مواجهة شرسة مع نواب حزبه من اليمين المتشدد الذي يتبنى التعريف الآيديولوجي المثالي. كما يدرك رئيس الوزراء أنه في هذه المواجهة، لا بد له من أن يستفيد من عرض زعيم المعارضة العمالي، كير ستارمر، بأنه سيدعمه في البرلمان إذا ما توصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يضمن مصالح بريطانيا؛ بهذا فإن رئيس الوزراء سيصبح أمام خيارين غير متوقعين؛ أن يحافظ على وحدة حزبه، أو أن يحافظ على مصالح بريطانيا. وتدل كل المؤشرات على أن اليمين المؤدلج «مثالياً» لن يتراجع، ولو أن الحزب انشطر إلى قسمين، وبالتالي؛ فإن حزب العمال سيصل للسلطة ليس بجدارته، بل بحكم الواقع، وعليه ساعتئذ أن يقرر: إما يكون مع أوروبا، وإما مع العالمية المتخيلة.