مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

لبنان... عشية الارتطام

كواحدة من جمهوريات الموز، تنزلق الأزمة المالية في لبنان ومعها السياسية نحو نقطة اللاعودة، وتصبح قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى الارتطام الكبير، بسبب خبر سرَّبه الإعلام عن أن وزارة الخزانة الأميركية قريبة جداً من وضع حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة على قائمة العقوبات، ما تسبب بانخفاض سريع وحاد بسعر العملة الوطنية أمام الدولار الأميركي، بحيث لم يعد ممكناً السيطرة على السوق المالية، وهذا يعني تفاقم الأزمة المعيشية، الأمر الذي يهدد بفوضى شاملة ستحاول منظومة السلطة رفع مسؤوليتها عنها، تحت ذريعة أن الخارج يتآمر على اللبنانيين من أجل فرض شروطه السياسية والمالية على استحقاقاتهم الداخلية.
طبعاً لم تتأخر السلطة الحاكمة المهووسة بنظرية المؤامرة في التصويب على الخارج، وهذه المرة حمايةً لرياض سلامة، باعتبار أن العقوبات عليه ليست لأنه فاسد، بل بسبب علاقته بـ«حزب الله»، حسبما جاء في الإعلام الممول من منظومة السلطة، وهذا ذريعة لتبييض صفحة سلامة رداً على جميليه في تبييض أموالها أولاً، وثانياً كونها تدرك أن العقوبات على سلامة تعني بداية فعلية لفكفكة المؤسسات الضامنة لمصالحها.
خروج سلامة من المشهد نتيجة فعل خارجي عقاباً له على أفعال داخلية يمثل لحظة مفصلية في تاريخ لبنان الحديث، إذ إن تداعياته تؤكد أنه لم تعد هناك كوابح تخفِّف من سرعة الارتطام، والأخطر أنه يتزامن مع خروج شخصيات أمنية من المشهد العام ولكنّ ذلك لأسباب داخلية، حيث كانت أنظار اللبنانيين متجهةً نحو مجلس النواب قبل أن تتحول إلى مصرف لبنان، من أجل حل أزمة الفراغ المقبلة في إدارات الدولة الأمنية، حيث من الصعب تأمين نصاب الجلسة البرلمانية للتمديد لهم من جهة، ومن جهة أخرى هناك من يتمسك بالرأي الدستوري الذي يقول إن المجلس منذ نهاية ولاية رئيس الجمهورية قد تحول إلى هيئة ناخبة وليست تشريعية، فالواضح أن المنظومة قد دخلت مرحلة التآكل الداخلي بحيث إنها لأول مرة تعطل مصالحها المشتركة.
تدخل الأزمة اللبنانية بجميع جوانبها مرحلة الانهيار السريع، والأخطر أنه لم تعد هناك إمكانيات لا داخلية ولا خارجية لكبحها أو ضبط تداعياتها، إذ إن أزمة العملة الوطنية وسعر صرفها أمام الدولار الأميركي باتت تهدد ما تبقى من استقرارٍ هش، قد تأخذ لبنان إلى فوضى غير معروفة الشكل والمعالم، ولا يستبعد إلا تكون اجتماعية فقط، بل إن مخاطر الفوضى الأمنية تتصاعد في بلد وصل فيه التعطيل والفراغ في مؤسسات الدولة من الحاجب إلى الرئيس.
رئاسياً لا يبدو أن فرص انتخاب رئيس للجمهورية ممكنة في المدى المنظور، والوقائع الحالية تكشف أن مَن فرض على اللبنانيين انتظار سنتين ونصف السنة فراغاً حتى يملأه بفراغ آخر اسمه عهد ميشال عون، هو غير قادر في هذه المرحلة على ملء الفراغ الرئاسي مجدداً بما يناسبه أو إدارته، لذلك يصوّب سهامه نحو الداخل والخارج؛ مطالباً الأول، أي الداخل، بالحوار بين الكتل النيابية من أجل تقريب وجهات النظر، والخارج -اجتماع باريس الخماسي- بعدم التدخل لأنه إذا تدخل سيكون منحازاً وسيخرِّب أكثر من هذا الخراب في بلدنا.
فعلياً، تواجه المنظومة وحزبها الحاكم صعوبة في الحصول على أغلبية برلمانية تمنحها القدرة على انتخاب رئيس أو فرضه تحت غطاء التوافق، أو استدراج الداخل والخارج معاً من أجل مساومتها على الاستحقاقات الدستورية (رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء)، وفي ذلك يقول نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم: «مع هذه الأزمة الاقتصادية الاجتماعية وما نعيشه وارتفاع الدولار الجنوني الذي لا يمكن أن ‏يُحتمل، لا حلَّ له إلا بسلوك الطريق الدستورية وبانتخاب رئيس للجمهورية ومن بعده حكومة ومن ثمَ ‏خطة إنقاذ، وإذا بقيت الأمور من دون اتفاق على حلٍّ معين فالأمور صعبة ومعقَّدة».
وعليه، فإنه برفع الغطاء الخارجي عن البنك المركزي، والداخلي عن القادة الأمنيين، يبدو أن لبنان قد وصل إلى نقطة الارتطام.