الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

«تسييس» كارثة الزلزال

لا تفصل الزلازل عندما تحرّك موجات غضبها تحت الأرض بين مناطق النظام السوري ومناطق المعارضة. ولا تميّز بين الموالين للرئيس التركي وأنصار خصومه. الزلازل لها حساباتها الجيولوجية في تقدير المواقع التي تجلب فيها الكوارث للعائلات وتقضي على الأطفال تحت الركام.
الزلازل لا تفصل أو تميّز، لكنّ السياسيين يفعلون. هي تضرب في حلب مثلما تضرب في إدلب، وفي المناطق الموالية للرئيس رجب طيب إردوغان كما في المناطق التي تدعم المعارضين له. والمشاهد المؤلمة التي شاهدناها على الشاشات خلال الأيام الماضية كان يجب أن تكون كافية كي نتجاوز السؤال: إلى من تنتمي عائلة هذا الطفل؟ ولمن صوّت أصحاب هذا المنزل المدمَّر في الانتخابات الماضية؟ لكنها عند البعض لم تكن كافية. تحول الزلزال إلى «فرصة» صالحة للاستغلال من بعض القادة والسياسيين لكسب أصوات وتحقيق مكاسب.
بعد انفجار مرفأ بيروت في صيف عام 2020، تجنب الرئيس اللبناني ميشال عون زيارة المكان، الذي قَدِمَ لتفقده والتحدث إلى أهل الضحايا رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون. عون رأى أن زيارة ماكرون والاهتمام الدولي الذي أثاره الانفجار يمكن أن يشكّلا فرصة لعودة الاهتمام بلبنان، والتعاطي مع الرئيس الذي كان يواجه عزلة سبّبتها سياساته الخارجية.
النظام السوري يتعاطى اليوم مع الزلزال المدمِّر الذي ضرب مناطق واسعة في شمال سوريا، تتوزع بين مناطق خاضعة لسلطته كما في حلب، وأخرى تسيطر عليها فصائل معارضة، على أنه فرصة لعودة انفتاحه على العالم ولإجراء اتصالات مع الاتحاد الأوروبي لطلب المساعدات للمناطق المتضررة، ما يدفع إلى السؤال عما إذا كان النظام السوري مهتماً بمساعدة ضحايا هذه الكارثة، من أي جهة أتت المساعدة، أم أنه مهتم باستثمارها لأغراضه السياسية، بعدما كان هو المسؤول المباشر عن تهجير ما يقرب من 5 ملايين سوري من مناطقهم إلى البلدات التي دمَّرها هذا الزلزال؟ ومعظم هؤلاء ليسوا غرباء عن الكوارث، لكنها لم تكن بسبب غضب الطبيعة، بل نتيجة القصف الذي كانوا يتعرضون له من مقاتلات النظام وحلفائه الروس، واعتادوا على البحث بين الركام على من قضوا أو من بقي من أحبائهم على قيد الحياة، تساعدهم فرق «الخوذ البيضاء» التي تقوم بالأمر نفسه اليوم في المناطق التي ضربها الزلزال.
الحكومات الغربية رفضت التعاطي مع تقديم المساعدات للمناطق المتضررة من زاوية الخضوع لابتزاز النظام السوري. فهي ترفض دخول المساعدات بشروطه، وتصر على استخدام الطرق التي استخدمتها خلال العقد الماضي، والاعتماد على المنظمات غير الحكومية التي كانت تستعين بها لتوفير ما أمكن لسكان هذه المناطق خلال الفترة التي قام النظام بتهجيرهم من بلداتهم إلى حيث هم اليوم.
لكنّ الحكومة السورية تصر على الإشراف بنفسها على توزيع المساعدات، رغم معرفتها أن الدول الغربية لا تعترف بسلطتها وترفض إقامة علاقات معها. ولم يتردد المسؤولون السوريون في تأكيد شروطهم. وزير الخارجية فيصل المقداد حاول طمأنة من ينوون التبرع عن طريق النظام بأن إيصال المساعدات الإنسانية لا يشكل خرقاً للعقوبات التي يفرضها «قانون قيصر». والسفير السوري في الأمم المتحدة بسام الصباغ، قال إن وصول المساعدات إلى مناطق المعارضة يجب أن يكون عن طريق النظام. وأكد في نيويورك أن حكومته لا توافق على دخول المساعدات من الأراضي التركية إلى المناطق التي لا تخضع لسلطة الحكومة. وردّ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بالتذكير بموقف حكومته من النظام السوري، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة مصممة على تقديم المساعدات للمتضررين، لكنَّ الأموال ستذهب إلى الشعب السوري وليس إلى النظام. وهو الموقف الذي أعلنه عدد من الحكومات الأوروبية. وفي النهاية تمسكت هذه الدول بمواقفها، وبدأت الشحنات المحمَّلة بالمساعدات تدخل، ولو متأخرة، عبر معبر باب الهوى الحدودي إلى مدينة إدلب، كما طالب المبعوث الدولي إلى سوريا غير بيدرسن بمنع أي عراقيل سياسية تمنع إدخال المساعدات إلى من يحتاجون إليها.
وفيما قام عدد كبير من الدول العربية بإرسال مساعدات عن طريق الحكومة، إلا أنه ليس معروفاً إذا كان قد وصل شيء منها إلى المناطق الخاضعة للمعارضة، قرب الحدود التركية. أما الحكومة السورية فلم تنظر إلى الجانب الإنساني الذي دفع الحكومات العربية إلى التواصل معها، بل وجدت أنها فرصة يمكن أن تفتح باب «التطبيع» مع دمشق.
هذا في سوريا، أما على الجانب التركي فقد تحولت مسألة الأضرار التي خلّفتها كارثة الزلزال وطريقة وصول المساعدات، إلى فرصة للجدل وتبادل الاتهامات بين حكومة إردوغان والمعارضة. هنا أيضاً كان «التسييس» سيد الموقف. فالخلاف السياسي المحتدم في وجه رئاسة رجب طيب إردوغان، عشية الانتخابات الرئاسية، فرض نفسه على أخبار الكارثة، ودفع الأصوات المعارضة إلى الشكوى من أن الأموال التي تمت جبايتها من مناطق الجنوب التركي، لتوفير بنية تحتية مقاومة للزلازل، لم توفر الحاجات الضرورية للمتضررين منها. زعيم حزب «الشعب الجمهوري» كمال كليتشدار أوغلو حمّل إردوغان شخصياً مسؤولية التأخر في وصول المساعدات إلى المتضررين. كما شكا كثيرون من أهالي الضحايا من أن وسائل الإنقاذ والبحث عن ناجين محتملين بين الركام لم تكن بالمستوى الذي كان ينتظره المواطنون.
وفي عدد من القرى والبلدات في جنوب شرقي تركيا انتظر سكانها 72 ساعة قبل أن تصل إليهم مساعدات، بينما كانوا يبحثون بين الركام مستعينين بما تَوفر لهم من معدات ووسائل بدائية. وعندما زار الرئيس التركي المناطق المنكوبة، كان تبريره أنه من الصعب الاستعداد لمواجهة كارثة طبيعية بهذا الحجم، كما أن الطرق التي تضررت بسبب الزلزال أخّرت وصول الإمدادات. وأصر إردوغان على أن كل المساعدات يجب التنسيق بشأنها مع السلطات التركية.
تحولت كارثة الزلزال إلى فرصة للاستغلال السياسي من كثير من الأطراف، بينما كان يجب أن يبقى التعاطي مع ذيولها في حدود رد الفعل على مأساة إنسانية؛ يساعد في الإنقاذ من يستطيع ويسكت خجلاً من لا يستطيع أو لا يرغب، مفسحاً المجال للقادرين.