جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بريطانيا: لعبة المراهنة

الشركات البريطانية المتخصصة في المراهنات، مثل نظيراتها في مختلف عواصم العالم، تتميز بامتلاك أنوف تشمّ المال أينما كان، ولا تخطئ الهدف إلا نادراً. لذلك السبب لا غير، لا تترك صادرة ولا واردة إلا وتلقي بثقلها وراءها. الأحداث السياسية المهمة، مثل الأحداث الرياضية، تدخل ضمن تلك الاهتمامات، وفي مقدمتها يأتي حدث مواسم الانتخابات النيابية.
وإذا كانت الاستقراءات لمعرفة توجهات الرأي العام انتخابياً مهمة، وتسعى المؤسسات المتخصصة بدأب على تقديم تنبؤات استقرائية تقترب من الدقة، حرصاً على سمعتها، فإن التكهنات الصادرة عن شركات المراهنة في المواسم الانتخابية لا تقل عنها أهمية. الخوفُ من الخسارة، هو ما يجعل تلك الشركات تتحرك بحاسة سادسة تفادياً لأي خسارة محتملة. ولتلك الغاية، تضع نصب أعينها متابعة استقراءات الرأي العام، وفي الوقت ذاته تلتجئ إلى تجنيد خبراء ومعلقين ومحللين، ليقدموا استشاراتهم وقراءاتهم الخاصة للحدث.
وسائل الإعلام تسلّط كثيراً من الضوء على ما يحدث في مكاتب تلك الشركات، وتتابعها بدقة متناهية، أولاً بأول، لمعرفة ما استجد من فروق في الآراء بين شركة وأخرى، والأسباب.
الانتخابات النيابية البريطانية، ستعقد في نهاية العام المقبل، هذا إن التزم الركاب في مركب حزب المحافظين، من النواب البرلمانيين تحديداً، بالحفاظ على هدوئهم، وتركوا رئيس الحكومة ريشي سوناك يواصل الإمساك بدفة القيادة، والتركيز على خطّ السير، بما يضمن وصول المركب بسلام إلى برّ الأمان بنجاح، كما يَعِدهم.
المؤشراتُ الحالية تشي بأن النواب المحافظين، رغم مخاوفهم المعلنة من احتمال خسارة الانتخابات وفقدان وظائفهم، غَلّبُوا المنطق، ورضوا، مؤقتاً، بالتزام الهدوء، حتى لا يتسببوا في غرق المركب بمن فيه قبل الأوان. واضطروا مكرهين إلى لجم نزعة التمرد ضد زعمائهم، التي عُرفوا بها، وصارتْ علماً عليهم.
الحقيقة التي كشفت عنها الشهور القليلة الماضية، وتحديداً منذ اختيار السيد سوناك لزعامة الحزب ورئاسة الحكومة، أبانت شيئين مهمّين؛ الأول أن السيد سوناك، رغم مهاراته الواضحة في ضبط الدفاتر، فإن أمر السيطرة على حزب عتيد وبتاريخ معروف مثل حزب المحافظين وقيادته، لا يحتاج إلى محاسبين مصرفيين مهرة، بقدر حاجته إلى قادة مخضرمين سياسياً، مثل ربابنة خبروا تقلبات البحر والطقس، وامتلكوا قدرة على التنبؤ باتجاه الرياح، والثاني أن أمر إدارة دواوين دولة في حقبة صعبة اقتصادياً، وفي منعطف تاريخي ملتهب دولياً، طالت نيرانه قارات العالم، يتطلب مهارات استثنائية، تضمن إلى حد ما، عدم انهيار مؤسسات الدولة تحت ثقل الأزمة وتداعياتها. وإن السيد سوناك، رغم عمله الدؤوب، لا يملك تلك الخبرات، ما جعله يقع رهينة بين أيدي مختلف التكتلات داخل الحزب، ويبقى تحت تهديد مستمر بالسقوط، حتى قبل موعد الانتخابات النيابية.
يضاف إلى ذلك عامل آخر لا يقل خطورة وتهديداً عن العامل الأول، ألا وهو تزايد ثقة حزب العمال مؤخراً بإزاحة المحافظين من 10 داوننغ ستريت، بعد 13 عاماً. الزعيم العمالي كير ستارمر مدعوماً بتصاعد شعبية الحزب في استفتاءات الرأي العام، قام بتجنيد خبراء في إدارة دواوين الحكومة لتدريب أعضاء حكومة الظل، على آليات عمل تلك الدواوين، بعد أن تكشف له أن عدداً كبيراً من وزراء حكومته القادمة بعد الانتخابات، لم يسبق لهم تولي مناصب وزارية من قبل، ويفتقدون الخبرة اللازمة.
وما حدث هو أن الثقة المتزايدة تلك بقدرة العماليين على إنزال الهزيمة بالمحافظين، في الانتخابات المقبلة، يقابلها من اتجاه معاكس تناقص الثقة بدوائر المحافظين، وتفاقم القلق يوماً بعد آخر، ما تسبب في خلق حالة ارتباك ظاهر في صفوفهم، وانعكس ذلك سلبياً على أداء الحكومة.
وهذا بدوره يعيدنا إلى ما بدأناه. فنحن من خلال المتابعة لما ينشر في وسائل الإعلام، على علم بما تقوله تقارير مؤسسات استقراء الرأي العام عن توجهات الناخبين البريطانيين. وإلى حدّ الآن لم يتمكن المحافظون من تجسير الهوّة في فارق النقاط التي تفصلهم عن شعبية حزب العمال، ولا يبدو من مجريات الأمور أنهم سيفعلون، ما لم يتدخل حُسن الحظ إلى جانبهم، ويقلب الموقف. علماً بأن الفارق ليس صغيراً. إلا أننا لم نتعرف بعد على طبيعة ما يحدث وراء الكواليس في شركات المراهنة من الحدث الانتخابي المقبل. وفي العادة، فإن قراءاتها تتشابه كثيراً فيما بينها، ولا تخالف تنبؤات استفتاءات الرأي العام المنشورة. الاختلاف عادة يتبدى في أمور تفصيلية. فإذا كانت الاستقراءات تميل نحو خسارة المحافظين، كما هو الحال الآن، تتجه شركات المراهنة إلى زبائنها بلعبة تكهنات أكثر تعقيداً، تتسق وطبيعتها المقامرة. وفي أكثر الأحوال، لا تخرج من المولد بلا حمص.