فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

النواب التغييريون والاعتصام في مجلس النواب اللبناني

جاز افتراضي، كما حال كثيرين عايشوا محنة السبعينات وما فعله العابثون من سياسيين وحزبيين وميليشياويين بلبنان، الذين حوَّلوا عاصمته بيروت المتباهية بدورها العلمي والثقافي والطبي والعمراني والتجاري والمصرفي ساحة احتراب وتدمير، أن النواب المنضوين تحت راية الثنائي الشيعي، سيبادرون لمجرد أنَّ قرر أربعة نواب تغييرين الاعتصام يوم الخميس الماضي داخل مبنى مجلس النواب كورقة ضغط لحمْل زملائهم ورئيس البرلمان على حسم انتخاب رئيس الجمهورية إلى أن يكونوا مؤازرين بعدما لم يكونوا سبَّاقين... لكن ما خطر في البال لم يتحقق واستمر النواب الأربعة على اعتصامهم، يتعاطف معهم البعض من زملائهم من دون تفعيل قوي لمشاعر التعاطف، بمعنى أنهم لم ينضموا إليهم وبقي ملحم خلف، ونجاة صليبا، وفراس حمدان، وسينتيا زرازير في قاعة «السجن البرلماني» وعلى العتمة مع إطفاء التيار الكهربائي بعد الظهر! هذا ما قالوه غير نادمين.
جاء اعتصام النواب الأربعة بعدما كانت الجلسة التي يعقدها البرلمان بغرض وطني بامتياز هو انتخاب رئيس للجمهورية سجلت الرقم 11، ومن دون أن تصدر عن الجلسات العشر السابقة أي تباشير، بل إنه بدلاً من أن يمارس النواب الواجب الذي من مقتضياته عند انتهاء عهد رئاسي المبادرة وعلى نحو ما ينص عليه الدستور انتخاب رئيس جديد وبحيث لا يحدث فراغ ويبقى الوطن ضمن دائرة الأوطان المحترمة، فإن التأجيل أفرز عقْد إحدى عشرة جلسة ولا بشائر طيبة.
لم يمهد «الرباعي البرلماني» للخطوة التي أقدم عليها. نفَّذها بصيغة المباغتة، بما يعني أن رئيس البرلمان نبيه بري لا بد امتعض، ليس فقط بفعل عدم التشاور معه، وإنما لأنه بصفته الحزبية رئيساً لـ«حركة أمل»، يرى أن مثل هذه القذيفة التي تستهدف الاحتجاج والضغط معاً، هي تراث محسوب على الحركة التي بات وريث زعامتها. وما نقصده بالتراث هو أننا عشنا في السبعينات ما أشرنا إليه مطلع هذا المقال، حيث إن الإمام موسى الصدر كان يرصد ما يحدث منذ اندلاع شرارة يوم الأحد 4.13. 1975 باستهداف مدبَّر لأحد «الأوتوبيسات» كان يُقل عدداً من الفلسطينيين الآتين من احتفالية وطنية ثورية في طريقهم إلى مخيم «تل الزعتر» المخصص - كما مخيمات أُخرى شملت جميع المحافظات - منذ لجوئهم إلى لبنان لسكناهم بموجب اتفاق موثق رسمياً وبموافقة كهنوتية (كون المنطقة مسيحية). ولقد رأى في ضوء هذا الرصد، أن لبنان الذي جاءه بغرض تعزيز شأن الطائفة الشيعية، وتوحيد جناحيْه (الجنوبي والبعلبكي) بات على مقربة من الهاوية نتيجة الصرعات السياسية التي أسست احترابات وميليشيات ودخول أغراب على الميدان، وهذا مآله ضياع صيغة التوازن الطوائفي. ولقد بذل من السعي لإبقاء لبنان وعاصمته بالذات بعيدة عن اللهب الطائفي والحزبي ووقف خطيباً ذات مناسبة من على منبر كنيسة. وعندما قوبل السعي بالخذلان، فإنه استحضر الصيغة الغاندية لمواجهة الموقف إنما بنكهة غير هندوسية. قرَّر الاعتصام وودّع والدته وزوجته وأبناءه وحمل بيده حقيبة فيها حاجياته وفي اليد الأُخرى عباءته وطلب من أربعة من المساعدين التوجه برفقته. إلى أين؟ لم يحدد... إلى أن وجد هؤلاء أنفسهم في رحاب مسجد الكلية العاملية التي كانت ملاذ الطائفة الشيعية في المناسبات الوطنية والأيام العاشورائية ومن قبل أن تنشأ ملاذات الضاحية الجنوبية على أيدي رموز «حزب الله» وقادة علمائيين آخرين، أبرزهم محمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين.
الاعتصام الذي لم يحظَ بالتفعيل، وبالتالي لم يلقَ التفاعل المطلوب، ونعني به اعتصام النواب الأربعة لقيه الاعتصام الصدري قبل 48 سنة. فقد أحدث بداية ما يشبه الصدمة الإيجابية وإلى درجة أن رئيس الجمهورية الذي تمحورت المواجهات حول ضرورة استقالته ومن قبل انتهاء مدة الولاية، ونعني بذلك الرئيس (الراحل) سليمان فرنجية، قال عندما بلغه نبأ الاعتصام «إني أعتبر أن قرار الإمام موسى الصدر هو إنقاذ للبنان...»، وإلى ذلك، فإنه عندما يكون القطب الماروني المحترم ريمون إده (رحمة الله عليه) من القلة التي لم تشارك في المواجهة المسيحية المسلحة، ومن دون أن يتخلى عن تحفظاته على التنازلات اللبنانية للمقاومة الفلسطينية؛ مما شكَّل ذلك حطباً على الجمر، وجاء إلى مجلس الصدر المعتصم مؤازراً خطوته، فهذا دليل على صوابية الخيار الصدري للاحتجاج والضغط السلمي. ومع أن المفاعيل تباطأت وتأخرت، إلا أن بصمة ذلك الاعتصام أخذت مكانها في كتاب الحراك العربي - الدولي لاحقاً لتحقيق تسوية أدت بعد عشر سنين صبغ الدم الكثير من أيامها إلى التسوية المتمثلة بـ«اتفاق الطائف» الذي بدلاً من أن يرعاه أبناء وأحفاد الحرب في السبعينات، نراهم بعد ثمانٍ وأربعين سنة غير مكترثين بهذا التراث الاحتجاجي، مرغمين على ذلك لجوهر الثنائية، أم أن لكل زعامة رؤيتها وظروفها، وأن ما كان يراه رمز «حركة أمل» ماضياً ليس بالضرورة أن يراه رمزها الوارث، ولو كان من الرؤى إياها لكان طلب من نواب الحركة المشاركة كما نسَّق في الوقت نفسه مع نواب الشريك الشيعي الآخر (حزب الله) لكي ينضم نوابه إلى نواب «أمل»، ويحوِّلوا الاعتصام إلى أداة ضغط، أو فلنقل إعادة نظر تجعل العسير من الأمور على درجة من اليسر الذي ينهي ظاهرة جلسات تأخير انتخاب رئيس الجمهورية التي هي على أهبة التبعثر.
عندما ارتأى الإمام موسى الصدر إشهار ورقة الاعتصام في مسجد وليس في أحد الحصون، فإنه أوجز الدواعي الموجبة وهو جالس في إحدى زوايا المسجد بعبارة «طوال يوم الخميس وليله، كنت أتلقى شكاوى الرجال وأسمع بكاء الأرامل واليتامى. وعلى رغم أنني سعيت جهدي ولم أذق طعم النوم، فإن القصف لم يهدأ، والأوضاع تزداد سوءاً فقررتُ في الثانية بعد ظهر اليوم أن أعتصم وأصوم حتى الشهادة أو حتى تعود البلاد إلى حالها الطبيعية. وقد ودعتُ والدتي وزوجتي وأطفالي وجئتُ أُصلي إلى الله أن ينقذ هذا الوطن...». ثم أضاف وهو يستقبل ريمون إده في مجلسه، حيث يفترش الأرض، وجمعاً من عقلاء الوطن «لا أستطيع وأنا في اليوم الثالث من اعتصامي الإفاضة في الكلام، ولكننا لم نقْبل بأن يشترك في الحكومة مَن هم متهمون بالمسؤولية عن الأحداث، ونطالب بمحاكمة المتسببين فيها أياً كانوا ويجب أن يكشف التحقيق ذلك بكل وضوح. إنَّ صَلاتنا أقوى من جرائمهم ومآثمهم وصيامنا أقوى من تعطشهم إلى الدم وسنستمر في مسيرتنا وهي أقوى من كل سلاح...». يا ليت يقال مثل هذا الكلام بالنسبة إلى جريمة المرفأ التي أيقظ السعي من أجْل كشف ما يمكن كشْفه من خباياها القاضي طارق البيطار، فيما الاعتصام الرباعي على حاله من الصمود.
قد لا يكون الاعتصام الصدري حسم الأمور على الفور؛ بدليل أن الكرّ والفرّ والتحفيزات المخابراتية السورية وغيرها، نشطت ومن مفاعيلها عملية خطف مثيرة استهدفت وليد جنبلاط لبعض الوقت ثم يعيده الأخوان دوري وداني كميل شمعون. ها هو أبو تيمور بات بعد أربعة عقود يمسك راهناً بأحد مفتاحي الحل الحاسم وتسهيل أمر انتخاب رئيس الجمهورية.
لكن الاعتصام حمل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات على أن يتلبنن بعض الشيء، ويقول في فقرات من بيان تاريخي أصدره (يوم الأربعاء 6.25. 1975) من مقره الرئاسي في محلة الفاكهاني إحدى قلاع «الضاحية السُنية» (طريق الجديدة) التي باتت إحدى القلاع الحريرية «إن الثورة الفلسطينية تحترم السيادة اللبنانية ولا رأي لها فيما يرتضيه لبنان لنفسه نظاماً واقتصاداً سوى التمني له الازدهار المطرد والمزيد من الفلاح والتوثيق. كما أن المقاومة الفلسطينية في لبنان ليست فئة سياسية تنتمي إلى هذه الجهة أو تلك ولا تريد أن تكون كذلك. كما أن استقرار لبنان وطمأنينة هو استقرار الثورة الفلسطينية وطمأنينتها...».
يطول الكلام في الموضوع اللبناني - الفلسطيني التي كانت المقاومة وجوداً مسلحاً حتى في المقاهي. لكن السؤال: هل تبدَّل الحال بعدما أخذ الدور الإيراني المجال مضاعفاً قياساً بالذي أخذه الوجود الفلسطيني، والذي على رغم ترحيله بحراً وبراً وجواً لم تطو صفحة الحضور المسلح الغريب في الحياة اللبنانية والذي يشكل عدم استقرار، فضلاً عن ارتباك في حسم الأمور السيادية، ومنها انتخاب رئيس جديد للجمهورية، عندما تنتهي الولاية. وهذا حصل على مدى خمسة رؤساء ماضين، ويتكرر راهناً حدوثه وبشكل أكثر تعقيداً. وكان في الإمكان تخفيف نسبة التعقيد لو أن هامش الضغط لإنجاز الأمور كان أكثر فاعلية، لكن الأمر انتهى جلسات انتخاب لا تتسم بالجدية والإحساس بالمسؤولية الوطنية... وهذا لأن بعض نواب التغيير هم الذين يعتصمون، وأن النواب ورثة رمز أمثولة الاعتصام الإمام موسى الصدر عن إحياء الأمثولة هم ساهون... أو حتى المشاركة في مَن بادر.
وفي انتظار نتائج جولة الترويض المتبادَل من جانب «حزب الله» وجبران باسيل، وكذلك أعجوبة الخطة ب، والتي بشَّر بها عبْر «الشرق الأوسط» وسيط التجارب التصالحية غير الثابتة الوزير السابق ملحم الرياشي مطلع هذا الشهر (يناير/كانون الثاني)، وقال، إنها ستعلن أواخر الشهر، وعلى أساس أنها الحل لمسألة أم الاستعصاءات السياسية اللبنانية: انتخاب رئيس الجمهورية... إننا في انتظار النتائج والأعجوبة ندعو رب العالمين كي ينير القلوب ويشرح الصدور فتتيسر الأمور.