ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

«حياة ومصير»

انتهيت من قراءة رواية «حياة ومصير» للكاتب فاسيلي غروسمان، التي تقع فيما يزيد على 1100 صفحة، وتعدّ شخصياتها بالمئات. وهي رواية دارت حولها تعليقات كثيرة في الآونة الأخيرة، لأن فاسيلي غروسمان، الذي كان في ستالينغراد، تعرّض لقمع شديد على يد الحكومة الروسية، لأنه فضلاً عن السرد المشوّق والموثّق للحرب التي دارت بين روسيا وأتباع هتلر، يصف كثيراً من المشاهد التي تبرز فيها ضراوة نظام ستالين والهلع الذي كان يتملّك ضحاياه في مكاتب جهاز الأمن الفيدرالي (لوبيانكا)، الذين كان يمضي معظمهم 10 سنوات أو أكثر في سيبيريا من غير تواصل مع عائلاتهم.
تصف الرواية بمنتهى الدقة ما كان يدور في الحرب، من تقدّم قوات هتلر في بداياتها، بقيادة الجنرال باولوس، إلى الهجوم الروسي المضاد الذي انتهى بهزيمة الجيوش الألمانية والقبض على جميع الجنرالات والضباط النازيين، بمن فيهم باولوس ذاته. ولا شك أن رواية كهذه تسمح لكاتبها بعرض كثير من الأحداث والمشاهد المأساوية، والبطولات، وكل أنواع المواجهات بين الجنود الروس والألمان، وأيضاً اغتيالات اليهود على يد النازيين، خاصة في المراحل الأولى من الاجتياح، التي كانت تتمّ أمام عدم اكتراث الفلاحين الروس الذين كانوا في معظمهم يكرهون اليهود، أو بمشاركتهم. وقد قضى آلاف منهم في تلك الحرب، كما يعرض فاسيلي غروسمان بدقة مذهلة، من غير أن تفقد الرواية بريقها والعنف الشاهق في وصفها للمواجهات العسكرية. لكن في اعتقادي، لم يوفّق الكاتب، بعد سرده الرائع للهجوم الروسي المضاد، في وصفه للحال التي وصلت إليها القوات الألمانية بأسلوب يفتقر إلى العفوية، ولا يرقى إلى المراتب الأخرى في الرواية. في المقابل، يأتي وصفه للفلاحين الروس، الذين بين ليلة وضحاها يجدون أنفسهم في قبضة قوات عسكرية لا قدرة لهم على مواجهتها، صادقاً ومباشراً ومؤثراً للغاية. وإلى جانب الحرب وأهوالها، تبرز في الرواية وحشية ستالين عند كل مفصل، كما في وصفه حالة الرعب التي يعيشها العالم فكتور بافلوفيتش شتروم، الذي يقع ضحية اتهامه زوراً بأنه عميل ضد النظام الستاليني، فيعاديه زملاؤه في المختبر الذي كان يشرف على إدارته، وتسري إشاعات عن قرب إعدامه، إلى أن يتلقّى ذات يوم مكالمة من ستالين بذاته يكتفي فيها بالاستفسار عن عمله ويتمنى له حظاً سعيداً. ومنذ ذلك اليوم، تغيرت حياة شتروم، من مرشح للنفي في سيبيريا، إلى بطل يتهافت جميع زملائه على تكريمه والإعراب عن ولائهم له. لكن ذلك النصر كان هزيلاً ولم يدم طويلاً، على غرار النصر الذي كتب لملايين الروس على عهد ستالين؛ حيث كان الأبرياء يرسلون إلى سيبيريا لقضاء سنوات كثيرة من العزل، يتعرضون خلالها لكل ضروب التعذيب، من غير سبب سوى ترسيخ حالة الرعب التي كانت تشكّل القوة السياسية الأساسية لنظام ستالين.
ثمة مشاهد تحبس الأنفاس في هذه الرواية، من حالات القلق الشديد التي يعيشها الجنود الروس بسبب قلة الطعام الذي يصلهم، أو الذخائر التي غالباً ما كانت سلاحهم الوحيد، إلى حالات العشق بين الجنود والفتيات الفلّاحات، والحوارات التي تدور بين عناصر الجيش والضبّاط في الأماكن التي يختبئون فيها هرباً من القنابل التي يمطرهم بها الطيران الألماني.
لكن ما يستقرّ في الذاكرة بعد قراءة هذه الرواية هو الصفحات الكثيرة التي تصف الهجوم الروسي المضاد، الذي فضلاً على نجاحه، يشلّ حركة الطائرات والدبابات الألمانية التي تحيط بها القوات الروسية من كل حدب وتقصفها حتى تجبرها على الاستسلام، والاحتفالات بالنصر التي تشعل الفرح في بيوت الفلاحين، بعد أن كانت لأيام خلت على شفير الدمار. وطوال فترة العامين ونصف العام التي تدور فيها أحداث الرواية، تشكّل هذه الصفحات لوحة رائعة تنقل إلينا ببلاغة مؤثرة معاناة الجنود الروس وبسالتهم أمام الموت، ثم السعادة التي تغمرهم وهم يحتفلون بالنصر على وقع الأهازيج الصاخبة وأقداح الفودكا الحاضرة دوماً، رغم النقص الدائم في الذخيرة والسلاح.
ويتألق فاسيلي غروسمان في سرديته عن الجنود الذين يقعون في حب الفتيات الريفيات، وفي وصفه مآسي عائلات الجنود في المدن التي تحتاج كل يوم لمعجزة كي تؤمن قوتها. ولا تغيب الرواية أبداً عن أولئك البسطاء الذين تطحن الحرب حياتهم اليومية، وعن الحوارات التي تدور بين صغار الضباط، حيث يمكن القول إنها تنافس الأدبيات التاريخية حول الهزيمة المدوّية التي نزلت بجيوش هتلر خلال اجتياحها روسيا.
وتكثر في هذه الرواية الحربية الفتيات، والعجائز، والحياة البائسة التي يعشنها، فيما الأولاد والأزواج يقاومون هجمات القوات الألمانية بشجاعة استثنائية، ويقعون ضحايا بالمئات. وكذلك بالنسبة للجنود الألمان الذين بعد اجتياحهم روسيا مجهّزين بأفضل الألبسة والأطعمة والعتاد الحربي، ينهزمون أمام الأعداد الهائلة من الجنود الروس الصامدين في مواجهتهم، فيما الأوامر الصادرة من برلين، أي من هتلر، تجبرهم على البقاء عند خطوط النار حتى الكارثة النهائية.
في غضون ذلك، يعيش هذا البلد الباسل حالة دائمة من الرعب، أي تحت خطر النفي إلى سيبيريا، بلا أي مبرر أو سبب سوى الاتهامات الصادرة عن جهات مجهولة، التي كانت الأسلوب المستخدم للتخلص من الأعداء، بإرسالهم إلى الغولاغ، الذي لا يخرجون منه إلا بعد سنوات كثيرة، حيث يقضي آلاف منهم في سيبيريا من غير أن تعرف عائلاتهم مصيرهم إلا بعد فترة طويلة.
ولعل الفصل الوحيد الذي يتدنّى فيه مستوى الرواية هو الذي يصف استسلام الجنرال باولوس للقوات الروسية. فالمشهد الذي تنقله لنا الرواية عن وقوع قائد القوات الألمانية في قبضة الجنود الروس، واقتياده في السيارة إلى موسكو، يفتقر إلى الدفء، والقوة، والدقة التي تميّز جميع الفصول الأخرى من الكتاب، الذي رغم ذلك يغوينا بفضل الترجمة الممتازة التي قامت بها مارتا ريبون، التي أعتقد أنها من أفضل الترجمات التي قرأتها عن اللغة الروسية.
لكن بعد كل هذه الملاحظات الحسنة حول رواية فاسيلي غروسمان، أعتقد أن هذا النوع من الأدب لا يتسع لكل هذا الجهد، لأن مئات الصفحات التي يخصصها الكاتب لهذه القصة تذوّبها في مقاطع قصيرة جداً تحول دون متابعة التجدد الفكري أو العاطفي للشخصيات، الذي يشكّل بذاته أحد أركانها الأساسية، لأن الصفحات لا تكفي لكي تتملّك هذه الشخصيات من أحد المفاصل الهامة في الرواية. فالجنود والفلاحون الروس يعبرون الرواية بسرعة لا تخلو من الجاذبية التي تبهر القارئ، لكنها ليست كافية لتشدّ أواصر الألفة معه. ولهذا السبب تبقى الرواية بعيدة عن مصافّ تولستوي، المعلم الأكبر في وصف المعارك. لكن هذه المقاربة التي أسوقها لكثرة ما قيل عن هذه الرواية، ليس الغرض منها الانتقاص من قيمتها العالية، فهي رواية ممتازة حول حدث تاريخي استثنائي، وهذا يكفي ويزيد لأي كتاب.