خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

حضارة مصر القديمة هدف للعثمانيين الجدد

خرج اليهود من مصر، استقروا في دولة قصيرة العمر في فلسطين، ثم أسروا إلى بابل. هذه المناطق الثلاث التي تناول العهد القديم حياتهم فيها وتفاعلهم مع من حولهم. القَصص القرآني لم يلتفت كثيراً إلى تعريض اليهود بأنساب منافسيهم من المؤابيين والعمونيين والكنعانيين، واتهامهم بأنهم أبناء سفاح أو ملعونون إلهياً. ولا التفت إلى قصص الأسر البابلي التي تناولها الكتاب المقدس بالتفصيل. لكنه اهتم بالقصص اليهودي عن حياتهم في مصر، بدءاً من قصة يوسف وإخوته، وصولاً إلى قصة ملك مصري طاردهم عبر البحر. القصة التي فصّلها سفر الخروج من دون أن يذكر فيها اسم ذلك الملك المصري على الإطلاق، في تجهيل كسر عادة اهتمام العهد القديم بالتفصيل الروائي، ما أبقاه مثيراً للتساؤل حتى يومنا هذا.
بالنتيجة، امتلأ التراث الإسلامي اللاحق بنظرة سلبية إلى الحضارة المصرية القديمة. ساعده في ذلك أن مصر نفسها تحولت قبل الإسلام إلى ديانة بني إسرائيل الثانية، المسيحية، التي تتبنى هي أيضاً رواية العهد القديم وتعتبر العهد الجديد امتداداً له. فصار تاريخ الحضارة المصرية القديمة في قفص الاتهام بلا محامي دفاع، فقط هيئة ادعاء، وتاريخ يُصدر أحكامه بناء على مذكرة الاتهامات التي تقدمها تلك الهيئة. ورسخت الرواية في المركز الثقافي الذي ننتمي إليه من العالم القديم، ثم تمددت إلى العالم الجديد. صارت الرواية العالمية المعتمدة، بلا خلاف عليها؛ إذ الخلاف يلزمه تحدٍ، أن يتحدث أحد دفاعاً عن هذه الحضارة. فمن يقوم بالمهمة؟
أبطال الرواية على الجانب المصري مجرد جثث محنطة، معقودة الأيدي إلى الصدور، متيبسة الأطراف، واللغة التي تركوها لا يفهم حروفها ونقشها أحدٌ، ولا يتحدث بها أحد. شيء شبيه بأن ترى بطلاً هوليوودياً مقيد اليدين والقدمين، معصوب العينين، مكتوم الفم والأنف، ومغمور في قفص محكم الإغلاق م`ليء بالماء. قعر اليأس القاتل الذي لا يستطيع مؤلف روايات مهما كان خياله أن يجد له مخرجاً يقبله العقل، ولا يستطيع ساحر أن يتغلب عليه إلا بخداع بصري. لكن هذا بالضبط ما حدث هنا.
مع ولع أوروبا التنوير بعالم ما قبل المسيحية قادتها الحضارة الإغريقية إلى الحضارة المصرية القديمة. و«وقف الخلق ينظرون جميعاً» كيف بُنيت هذه الحضارة من الحجر ما لا يمكن بناؤه بلا علم دقيق، وقدرات متفردة. تكلم الصمت الأبدي، بلا لسان ولا إشارات، تجلى السحر المعجز، وسخَّر آخرين لخدمته. كان بليغاً وصف حافظ إبراهيم: «وبناة الأهرام في سالف الدهر، كفوني الكلام عند التحدي».
حين غزا نابليون مصر في 1798 اصطحب معه 160 عالماً ومهندساً وباحثاً لكي يسبروا غور هذه الحضارة. بعض هؤلاء بقوا بعد اضطرار الجيش إلى الرحيل، وانضم إليهم علماء من القوة الاستعمارية المنافسة، بريطانيا. من تعاونهما جاء الفتح الأول بفك رموز حجر رشيد، وفهم اللغة المصرية القديمة، فكان الأساس لفرعٍ من العلوم منكبٍ فقط على دراسة هذه الحضارة، Egyptology. حركات الاستكشاف الأولى كانت هي الأخرى مدفوعة برغبات متنافسة متناقضة. بعضها يبحث عن حضارة ما قبل السردية الكنسية، وبعضها يبحث عن دلائل تثبت تلك السردية. لكن الطرفين وصلا إلى النتيجة نفسها: حضارة عظيمة. مدونة، مؤرخة، موثقة. قديمة بعمر منجزها، حديثة بعمر اكتشافها، وكشفها.
أثَّرت إعادة اكتشاف تاريخ مصر القديمة على صعود الشعور القومي المحلي فيها في بداية القرن العشرين. غنّى سيد درويش باعتبار المصريين المعاصرين امتداداً لها، «شوف جدودك في قبورهم ليل نهار، من جمودك كل عضمة بتستجار، صون آثارك ياللي دنست الآثار، دول فاتوا لك مجد وانت فُت عار». لكن ثلاث قوى رئيسية وقفت في وجه هذا الشعور القومي، خلال القرن الماضي، لأسباب مختلفة؛ حركة الإخوان العثمانيين الساعية إلى إعادة سيطرة الترك على المنطقة باسم الإسلام، والعروبيون الذين يريدون توحيد المنطقة تحت راية توسعية أخرى، واليسار الأممي المناهض لفكرة القوميات المحلية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وغزو العراق للكويت، تشكل تحالف العثمانيين الجدد، المرقط آيديولوجياً، الحربائي سلوكياً، من تنويعة من القوى الثلاث نفسها، بعد أن صار الإخوان العثمانيون مركز الثقل السياسي والمالي. وتقدم هذا التحالف إلى دائرة الضوء بعد ما عرف إعلامياً بـ«الربيع العربي». ومرة أخرى، في مواجهة العثمانيين الجدد، تصاعد الشعور القومي المحلي، في مصر وغيرها من دول المنطقة. وكان طبيعياً أن يرتبط في مصر بفكرة الاهتمام المتزايد بحضارتها القديمة. وفوراً أدرك العثمانيون الجدد أن شعور الهوية القومية المحلية عائق قوي ضد الأممية العثمانية الجديدة، وعناصرها المحلية الداعمة. وأنه شعور يستجلب معه النفور من الارتباط بعاصمة الاستعمار التركي، صاحب النصيب الأكبر في تخلفنا المعاصر.
يفسر هذا هجمة حديثة مكثفة على الحضارة المصرية القديمة، تحمل آثار أقدام وبصمات أصابع تحالف العثمانيين الجدد. يقدم المهاجمون أفكاراً من إسرائيليات التراث بلغة معاصرة، كسمت الإسلامجية الجدد. وحين تفتش عنهم تجدهم إسلامجية سابقين يروون حكاية قوم عاد والعماليق بلغة العلم الزائف. ثم إن الفيديوهات تروّج بالآلاف بعض دقائق من طرحها، وهذا سمت تعوّدنا عليه من جمهور التنظيم الخشبي، والمتعاطفين معه.
ومن المؤسف أن يتزامن هذا مع هجمة أخرى على الحضارة المصرية القديمة من قبل جماعات الأفروسنتريك تسعى إلى منازعة المصريين ملكيتها، ونسبها إلى غير ورثتها. وهذا ملمح آخر دال على الإسلامجية الجدد، حيث صرنا نراهم في صفوف الحركات النسوية الغربية، وحركات الهويات الجندرية الغربية، وحركات حقوق السود الغربية. ونراهم في الوقت نفسه ضمن صفوف محاربي الأفكار نفسها محلياً. «راشقون» في أي مكان يخدم غرضهم السياسي. رُقْطَة وحربائية لا تزالان تخدعان كثيرين. وعالم زائف موازٍ غرضه تدمير أي موضع للفخر في حياتنا. وبداية التاريخ من معين بني عثمان.