جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

البيرو تقترب من حافة هاوية

لاقتي الوطيدة بالأدب وعشقي لكرة القدم، عززا من توسيع دائرة معلوماتي بعدد من البلدان في العالم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، معرفتي ببلدان أمريكا الجنوبية عموماً، والبيرو خصوصاً. العلاقة بالبيرو، البلد الفقير والبعيد، وسكانه البالغ عددهم 33 مليون نسمة، ما كانت لتوجد، لولا قراءتي لروايات الكاتب البيروفي ماريو فارغاس لوسا، ومشاهداتي لمباريات المنتخب البيروفي في دورات كأس العالم، وبطولات أميركا الجنوبية. إلا أن تلك العلاقة للأسف توقفت عند ذلك الحد، ولم تتطور إلى محاولة الاقتراب من فهم واستيعاب طبيعة اللعبة السياسية في البيرو، وأهم المؤثرات الداخلية والخارجية. وحين انفجرت الأزمة الرئاسية والدستورية مؤخراً، في يوم 7 من شهر ديسمبر (كانون الثاني) من العام الماضي، وضعتُ نصب عينيَّ متابعة تطوراتها، أولاً بأول، عبر ما ينشر في وسائل الإعلام. وبعد فترة قصيرة، وجدت أن المعلومات الإعلامية لا تكفي نهمي للمعرفة، فهرعت مستنجداً إلى الشبكة العنكبوتية، لمحاولة فهم ما يحدث من صراع في العاصمة ليما، بين القصر الرئاسي والبرلمان وقادة المعارضة، ولماذا حدث؟
الديمقراطية في البيرو حديثة العهد، لم تعمق جذورها، لا يزيد عمرها على عقدين من الزمن، عقب خروجها من نفق الديكتاتورية. وهي في ذلك مثلها مثل أغلب بلدان أميركا الجنوبية. وطبيعة العملية الديمقراطية الحزبية لا تقارن بنظيرتها في دول أوروبا الغربية مثلاً، لكونها معلقة في الفضاء، بلا جذور في الأرض. بمعنى أن الأحزاب بمثابة أطر فارغة، تفتقر للقواعد الشعبية في الواقع، وقائمة على الالتفاف حول أفراد من النخبة - (يمينيون، تخندقوا في مواقعهم دفاعاً عن مصالحهم، وضمان استمرار نفوذهم) - يرون في التغيير تهديداً لهم. لذلك فإن الأحزاب في البيرو لا تختلف كثيراً عن ظاهرة تكاثر وبروز الأحزاب، التي ظهرت في كثير من بلدان أوروبا الشرقية، في الفترة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي، أو الأحزاب التي ظهرت في بلدان ما أطلق عليه اسم الربيع العربي بعد عام 2010.
والرئيس بيدرو كاستيلو، الذي يقبع حالياً في الاعتقال، كان مدرساً ونقابياً من أصول ريفية، وليس من الوجوه المتداولة في الساحة السياسية البيروفية. وهو ذو خبرة ضئيلة سياسياً. والمعلقون الغربيون يصنّفونه يسارياً. ووصوله إلى كرسي الرئاسة كان بفضل أصوات سكان المناطق الريفية الفقيرة، وخاصة السكان الأصليين، وما قدمه لهم من وعود بتخفيف معاناتهم. كما أن وجوده حالياً رهن الاعتقال بتهم الفساد، ليس بالأمر المثير للاستغراب في البيرو، والسبب، أن أغلب من سبقوه في المنصب، لاقوا المصير نفسه، وبالتهم نفسها: الفساد وقبول رشى.
الأزمة السياسية العاصفة حالياً، كان لا بد أن تحدث، نتيجة الصراع بين الرئيس وخصومه في البرلمان منذ البداية. إذ فشل الرئيس كاستيلو في تشكيل خمس وزارات، ونجا من محاولتي عزل. واتهم من قبل النيابة العامة بالفساد، وأنه يقود منظمة إجرامية. ومن جانبه، وقبل يوم واحد من اعتقاله، اتهم الرئيسُ البرلمان بالسعي إلى نسف الديمقراطية. وأمر بحلّ البرلمان، والعمل بالأحكام الدستورية إلى حين إجراء انتخابات نيابية جديدة. إلا أن البرلمان كان أسرع في التحرك، وقام بعزله، وتعيين نائبته الأولى دينا بولوارتي رئيسة مكانه. وفي اليوم التالي، ظهرت صور كاستيلو في مواقع التواصل الاجتماعي وهو مقيد بالأصفاد، من قبل الشرطة، في طريقه إلى السجن.
الاعتقال كان الشرارة التي فتحت أبواب جهنم على الرئيسة الجديدة. فالتجأت إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد، ونزلت قوات الجيش والشرطة إلى الشوارع. الأخبار تؤكد مقتل 50 شخصاً. 49 منهم مدنيون، وشرطي واحد وجد ميتاً في سيارة شرطة محترقة.
في البداية، كان المتظاهرون في أغلب المدن البيروفية يطالبون بتنحية الرئيسة الجديدة، وإعادة كاستيلو إلى منصبه. ومع احتداد الموقف صاروا يطالبون بإجراء انتخابات برلمانية جديدة. وفي الأيام الأخيرة ارتفع سقف المطالب إلى المطالبة بوضع دستور جديد لأمة جديدة.
اتهام الرئيس كاستيلو بالفساد لا يعني أن التهمة صحيحة، والقضاء البيروفي أمر بتجديد حبس الرئيس لمدة 18 شهراً أخرى. من المهم الإشارة، إلى أن جهازي النيابة والقضاء، كانا من ضمن الأجهزة التي أمر الرئيس، قبل عزله، بحلّها أيضاً.
المعركة الجارية هذه الأيام تزداد عنفاً وضراوة، وفي العاصمة ليما وغيرها من المدن. والرئيسة الحالية السيدة بولوارتي رفضت الاستجابة لمطالب المتظاهرين. ولن تذعن لمطالبهم بالاستقالة. وكما هو متوقع، زعمت أن وراء المتظاهرين عناصر تخريبية. وعلى الرغم من ارتفاع أعداد القتلى والجرحى والمعتقلين، فإن نيران المعارك في الشوارع في أغلب المدن، ازدادت أواراً، وازدادت رقعة التظاهر، وانتشرت في مناطق عديدة، وزادت أعداد المتظاهرين. وقد يكون السبب في ذلك هو أن الطبقة الشعبية، وخاصة من بين السكان الأصليين، تُكنّ كرهاً شديداً للنخب الحاكمة، وتعتبر الرئيس المعزول كاستيلو واحداً منهم.