أحمد محمود عجاج
TT

التبعات المتوقعة في إعدام إيران علي رضا؟!

أخيراً، وصلت بريطانيا إلى طريق مسدود مع إيران، وأدركت أن جميع محاولاتها لكسب ود طهران ذهبت أدراج الرياح؛ فالقادة البريطانيون منذ بلير وحتى سوناك كانوا يأملون في أن تغير طهران سلوكها، ويتوقعون حصد منافع اقتصادية حالما ترفع العقوبات؛ لكن حسابات البيدر غير حسابات الحقل. ولعل السبب في خطأ قراءة إيران يعود لفرضيات، أهمها الاعتقاد أن إيران فيها جناح معتدل، وأنها عقلانية، وراغبة في علاقات طيبة مع الغرب شريطة ضمان عدم زعزعة نظامها.
وقد تجاهل الغرب في فرضيته، رغم كل الدراسات والتحليلات العلمية، طبيعة الثورة وآيديولوجيتها، وتغاضى عن كل الممارسات الإيرانية، وتجاهل مصالح حلفائه، لقناعته أنه يمكن استعادة إيران، والحفاظ على الحلفاء في المنطقة؛ لكن النتيجة أن حلفاءه بدأوا يشككون فيه، وأدارت إيران الظهر له، بل تحدته بالانحياز لروسيا، وإعدام مواطن يحمل الجنسية البريطانية دونما أي تشاور أو تبادل للأدلة، على اعتبار أن المعدوم مواطن بريطاني من حق دولته أن تعرف تفاصيل إدانته ثم إعدامه.
السؤال: لماذا قررت إيران الإعدام الآن، مع أن علي رضا معتقل منذ عام 2019؟ ثمة تفسيران؛ أولهما يتعلق بالآيديولوجيا، وثانيهما بالتكتيك بحكم التبدلات الدولية. فالآيديولوجيا هي ثورية بامتياز، وتوسعية، وفوقية بمعنى نشرها في أصقاع العالم، سواء بالإقناع أو بالقوة. هذا ما أوضحه آية الله الخميني عندما أعلن أن الثورة هي قوة عالمية ثالثة ليست مع الغرب ولا الشرق، بل لها كيانها الخاص الغالب بقوة الله، وكان إعلانه التبشيري أن دول الخليج هي مستعمرات أميركية يجب قلعها، وأن النظام العراقي يجب إزالته لكي تنفتح أبواب المنطقة. وقد نفذ وريث الخميني المرشد علي خامئني، تلك الوصية، بحذافيرها؛ فكانت السيطرة على العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن، والتحالف في قطاع غزة. لكن الآيديولوجيا لديمومتها تحتاج لزخم دائم لم يعد متاحاً، بدليل الاحتجاجات الكثيرة، وآخرها ضد الحجاب، وهو رمز الآيديولوجيا الإسلامية، والمناداة بإسقاط النظام، والتهجم على شخصية مرشد الثورة؛ ولمواجهة هذه الاحتجاجات قبل أن تستفحل كان على النظام إما أن يقمع المتظاهرين كما اعتاد أو يتفاهم معهم.
لكن الظروف تختلف هذه المرة عن سابقاتها، لأن النخبة الحاكمة لا تبدو متماسكة، وهذا يجعل المؤسسة العسكرية بكل تفرعاتها صاحبة القرار الحاسم؛ فالمؤسسة العسكرية تقليدياً مع النخبة المتماسكة لكنها بغياب التماسك ستنحاز حتماً إلى الفريق الأقوى شرط لا تحدث مواجهة شاملة مع الشعب والعالم الخارجي؛ لكن العسكر حتى اللحظة مع الجناح المتشدد، ولذلك يمكن قراءة تنفيذ الإعدام بأنه رسالة إيرانية للمحيط الخارجي بأن إيران مستعدة للمواجهة، ورسالة للداخل الإيراني بوجود عملاء يبيعون أسرار الدولة النووية، ويتعاملون مع الأعداء لإسقاط الأمة الإيرانية وليس النظام؛ وهنا يأتي دور التكتيك بمعنى ربط مصير النظام ببقاء الأمة الإيرانية، وبذلك تنتقل المعركة من مواجهة الداخل إلى الخارج المتربص بمصالح إيران وعزتها. ولا شيء يريح النظام أكثر من تلك التصريحات البريطانية الغاضبة والمتوعدة، لأن ذلك يعطي مشروعية له بأنه يتعرض لحملة خارجية لدفاعه عن مصالح الأمة الإيرانية؛ ومن ضمن التكتيك أعطت القيادة الإيرانية لشعبها شريطاً من المعلومات عن لقاءات بين علي رضا والمخابرات البريطانية، وأنه مسؤول عن قتل العالم الإيراني فخر زاده، وكذلك بررت إعدام متظاهرين بأنهم يعملون ضد الأمة. هكذا حوّل النظام التمرد ضد آيديولوجيته إلى مواجهة وجودية بينه وبين عملاء يدارون من الخارج؛ ولكي يحمي نفسه أكثر، ولكيلا يُستفرد مثل العراق، انضم إلى روسيا وحربها في أوكرانيا، ليضمن دعمها في المواجهة، وعزز تعاونه مع الصين لمعرفته أن النظام الأحادي انهار، وأن التعددية الدولية تعطيه مجالاً للهجوم والدفاع؛ فالنظام أصبح لاعباً في منافسات دولية خطرة خارج منطقة الشرق الأوسط، وهو ما تجنبه طيلة وجوده؛ هذه مخاطرة تدل على قلقه وليس على ثقته. لكنه بقدر ما يُصعد، لإبراز قوته وثقته، تستفحل مشاكله. آيديولوجياً أصبح الآن محاصراً في الداخل والخارج؛ ففي الداخل خفت شعبياً الإيمان بالآيديولوجيا الثورية، بعدما أيقن الشعب الإيراني أنها أفقرته، وإقليمياً أيقنت شعوب المنطقة كذلك أن إيران فتت نسيجه الاجتماعي ودمرت اقتصاده؛ وكما يقول ميكافيلي فإن الدولة التي تدخل بلداً خارجياً وتفشل في جعل حياته أفضل من السابق، سيرتد عليها أهل البلاد ويحاربونها بالانحياز إلى من يحاربها؛ ففي المنطقة لم تُحسّن إيران حياة الشعوب، بل جعلتها تترحم على أسوأ الأنظمة؛ وهذا بالذات أقوى مؤشر على أفول ثم ذهاب نفوذ إيران في الدول التي تباهت بأنها احتلت عواصمها. كما أن التكتيك المتمثل بإعدام علي رضا، والانحياز للروس، أشعر الغرب بأن إيران أصبحت خطراً على أمنه، وأنها إذا ما حصلت على السلاح النووي سيكون خطرها أعظم؛ ولذلك ارتفعت الأصوات في برلمان بريطانيا، ومجلس شيوخ فرنسا، وأوساط نافذة في ألمانيا، إلى إدراج «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب؛
هذه الأصوات أصبحت تصف إيران بأنها دولة همجية وراعية للإرهاب في سياق لم يعرفه ساسة أوروبا من قبل؛ فالساسة الغربيون لم يعد خطابهم يركز على معتدلين ومتشددين إيرانيين، بل أصبح صافياً بأن النظام الحالي يديره متشددون، وأنه لا بد من مواجهته ومحاسبته، كما صرح رئيس الوزراء البريطاني مؤخراً. وقد أصبح الخطاب في الغرب على مستوى الصحافة والبرلمانيين يجاهر علانية، وبالذات في بريطانيا، المعروفة بتذبذبها إزاء النظام الإيراني، داعياً للانحياز للأصدقاء الحقيقيين.
يقف النظام الإيراني الآن على مفترق طرق: إما أن يتصالح مع شعبه، وهذا سيؤدي إلى تغيير في القيادة، وإلى مراجعة شاملة لمسار الثورة، أو أن يتابع مساره الحالي ويواجه شعبه، وشعوب المنطقة، دفعة واحدة؛ الخيار الأول يريح إيران والمنطقة، والخيار الثاني يستنزفها بانتظار السقوط المدوي.