الإضرابات التي تشهدها بريطانيا منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تذكر بأجواء منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا وأميركا الشمالية. ذاك أن الحل الذي تروّج له حكومات المحافظين للخروج من الركود والتضخم اللذين أعقبا وباء «كوفيد - 19» يتطلب «زيادة الإنتاجية» على ما أبلغ وزير الصحة ستيف باركلي، ممثلي النقابات الذين التقاهم.
موقف الوزير البريطاني استعادة باهرة لطريقة في التفكير (والعمل) لا تقيم وزناً حقيقياً لقوى الإنتاج وتلح في الوقت ذاته على إبقاء شبكة أمان للمجتمع لمنع انهياره. بكلمات ثانية: على موظفي القطاع الصحي أن يتحملوا ساعات عمل لا نهاية لها وتدفقاً مستمراً للمرضى بإمكانات وموارد لا تني تتناقص وتضمحل بسبب سياسة التقشف الصارمة.
بيد أن الإضرابات هذه ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي يختبئ تحت ماء التغيرات الدولية التي أسهم الوباء في تظهيرها ودفعتها الحرب الروسية في أوكرانيا دفعة قوية إلى الأعلى. فالنموذج الذي يجري التركيز عليه حالياً يرتكز على الوظائف التي لا تُلزم رب العمل بأي ضمانات أو حماية للموظفين. وهذا ما تحاول بعض الحكومات نقله من القطاع الخاص إلى ما تبقى من قطاع عام، على غرار النظام الصحي البريطاني.
ويدعم التغيير العميق هذا في علاقات العمل رهان قسم من أصحاب العمل على تحقيق الذكاء الصناعي والجيل الجديد من الروبوت المعادلة الذهبية: جني أرباح طائلة من كلفة شبه معدومة وفي ظل غياب تام لأي مسؤولية اجتماعية.
تفسير هذه الظاهرة التي تتعمم في العالم وتنتقل من الدول الصناعية الكبرى إلى تلك النامية والأقل نمواً، يكمن في اختلال التوازن ضمن الأنظمة السياسية القائمة على مقولات الليبرالية - الديمقراطية. فليس سراً أن الصيغة الليبرالية - الديمقراطية التي أرسيت بعد الحرب العالمية الثانية وأتاحت «للنواس الاقتصادي العظيم» (Great economic pendulum بحسب تعبير الاقتصادي بول دي غروي) العودة من الانفلات الكامل لرأس المال الذي تسبب في «الركود الكبير» في عشرينات القرن الماضي، وشكل أحد أسباب الحرب المذكورة، إلى استدارة «النواس» والتحول نحو إتاحة المزيد من التدخل للدولة في ضبط علاقات العمل وضمان حقوق المنتجين على حساب أصحاب رؤوس الأموال الكبرى.
التهديدات القاتلة التي تواجهها الليبرالية - الديمقراطية (وهي ليست - بالضرورة - النموذج الأمثل والنهائي لما يمكن للبشر أن يصلوا إليه في تنظيم وإدارة اجتماعهم)، تتركز في القسم «الديمقراطي» إذا جاز القول من المعادلة. وليس صدفة أن تتعرض المؤسسات التي ترمز إلى الديمقراطية إلى الهجوم المباشر على غرار ما جرى في البرازيل أخيراً على أيدي مندوبي اليمين المتطرف. فالديمقراطية، في النموذج السياسي الحالي، هي المنوط بها حماية المجتمع ومواجهة الضغوط الهائلة التي يتعرض لها لاستخراج أقصى ما يمكن من عائدات ولو عن طريق تدمير البيئة التي تحتضن البشر. وهذا بالضبط ما حاولته الحكومة السابقة في البرازيل من خلال الهجوم على غابات الأمازون.
والشيء بالشيء يذكر أن اقتصاديين آخرين استخدموا فكرة النواس في تشبيه حركة السوق بين حدين أقصيين من البطالة والتضخم إلى أن تعود السوق في نهاية المطاف إلى نوع من الاستقرار بفضل قوانين الاقتصاد الرئيسية.
من جهة ثانية، ما زال صدى النعي المتكرر منذ ثمانينات القرن الماضي لدور الدولة في المجتمع والاقتصاد، الذي مثل الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر نجميه الساطعين، يتردد في العديد من القوى السياسية التي لا يندر أن تصل إلى الحكم. وتعي القوى هذه أن أزمة الديمقراطية الحالية وصعود الشعبويتين اليمينية واليسارية أن المجتمع سيرد على محاولات تطويقه وإخضاعه. وتتخذ ردود المجتمع أشكالاً شتى منها رفض الانخراط في سوق عمل ظالمة وعدمية في ظاهرة انتشرت بعد الوباء وأدهشت المحللين الاقتصاديين الذين راقبوا النقص الحاد في عدد طالبي العمل في قطاعات ترغم المشتغلين فيها على ما يشبه العبودية في الرواتب والضمانات، على ما يقول دعاة إحياء العمل النقابي في الولايات المتحدة على سبيل المثال.
في الدول النامية أو الأقل نمواً، تزداد مأساوية المشهد بالنظر إلى هشاشة آليات الدفاع المجتمعية وسهولة اختراقها والالتفاف عليها على ما نشهد في لبنان منذ ثلاثة أعوام ونيف؛ حيث نجح تحالف من السياسيين الفاسدين تحميه قوى أهلية مسلحة في إجهاض كل محاولة إصلاحية وفي فرض استنقاع شامل والقضاء على آمال أجيال بكاملها في العيش الكريم.
المجتمعات التي لم تصبها هذه الآفة كلياً ما زالت تحاول إدارة حركة «النواس العظيم» صوب مصالحها.
TT
استدارة «النواس العظيم»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة