يارا عاصي
أستاذة مساعدة في إدارة الصحة العالمية والمعلوماتية بجامعة وسط فلوريدا، وباحثة زائرة بمركز «إف إكس بي (FXB)» للصحة وحقوق الإنسان بجامعة هارفارد
TT

الفلسطينيون بين القلق وانعدام الأمن وتنكيل الاحتلال

في العام الذي مضى، أثناء الفترة التي سبقت الانتخابات الإسرائيلية، عدت إلى مسقط رأسي، نابلس، في الضفة الغربية المحتلة، للعمل على مشروع بحثي وقضاء بعض الوقت مع أسرتي هناك.
وقد تلقيت منحة لدراسة تأثير القيود التي تفرضها إسرائيل على تنقل الفلسطينيين على صحتهم، مثل نقاط التفتيش، وتصاريح السفر (بما في ذلك تلك اللازمة للرعاية الطبية)، والجدار الفاصل الذي يمتد عبر الضفة الغربية، وإغلاق الطرق.
وقد منحني عملي السابق والأبحاث القائمة التي أجريت بشأن صحة الفلسطينيين ورفاهتهم إحساساً جيداً بما سأجده: أعباء متعددة في الحصول على الرعاية الصحية، ومعدلات مرتفعة يمكن التنبؤ بها من الاكتئاب، والإجهاد، والقلق، وانعدام الأمن.
توقعت أن أسمع قصصاً عن الصراع والخسارة والصدمة. وسمعت العشرات منها، لا سيما بين الشباب، الذين يشعرون باليأس الحاد.
ما لم أتوقعه هو أن رحلتي ستتزامن مع الشهر الأكثر دموية في السنة بالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ عام 2006: إذ قُتل ما لا يقل عن 150 شخصاً حتى الآن في عام 2022، بما في ذلك أكثر من 20 طفلاً، وكلهم تقريباً نتيجة للعنف العسكري الإسرائيلي... أو أنها الطريقة المباشرة التي أختبر بها مستويات العنف اليومي الذي يحدد حياة الفلسطينيين.
مع تصاعد الحديث عن عمليات قمع أكثر حدة ضد الفلسطينيين من قبل الائتلاف اليميني المتطرف الذي شكله بنيامين نتنياهو، وأصبح رئيساً لوزراء إسرائيل مرة أخرى، فمن المهم التوقف ثم تقييم مدى سوء الأمور التي كانت سائدة بالفعل بالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية، وخاصة في عام 2022.
بعد أسابيع قليلة من رحلتي، حاصر الجيش الإسرائيلي مدينة نابلس، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 160 ألف نسمة، في محاولة لإخماد «عرين الأسد»، وهي جماعة فلسطينية مسلحة تشكلت حديثاً هناك. وقد عُزلت المدينة فعلياً عن بقية الضفة الغربية - وهي أراض محتلة معزولة عن العالم من نواح عديدة - من قبل الجيش الإسرائيلي، وهو حصار لم يُرفع إلا بعد ثلاثة أسابيع.
وهذا يعني أن جميع المركبات التي تغادر المدينة أو تدخل إليها تخضع لساعات مطولة من الانتظار والتفتيش (بما في ذلك، أحياناً، تفتيش هواتف الفلسطينيين وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي) أو تُمنع من مغادرة المدينة أو دخولها بالكامل.
وكان لهذا أثر مدمر على اقتصاد المدينة، وأعاق الوصول إلى الرعاية الصحية، والتعليم، والتجمعات الاجتماعية، ناهيكم بالتوتر الشديد، وعدم اليقين بين سكان المدينة.
كان إغلاق المدينة في وقت تصاعد العنف العسكري وعنف المستوطنين بالفعل عملاً عنيفاً في حد ذاته، وهو جزء من العقاب الجماعي المبرر باستمرار لأسباب أمنية، ولكنه يعمل على افتراض أن جميع الفلسطينيين يشكلون تهديدات محتملة ويجب معاملتهم على هذا النحو.
فالشباب الفلسطيني لم يعرف قط حرية الحركة أو الحياة من دون الحكم المستمر والعنيف للجيش الإسرائيلي. وهذا هو السياق الذي نشأت فيه جماعة «عرين الأسد»، التي أعلنت مسؤوليتها عن عدة هجمات بإطلاق النار على الجنود الإسرائيليين. إن الحملة الأخيرة التي شنتها إسرائيل على الضفة الغربية، بما في ذلك حصار نابلس، تهدف إلى حد كبير لتثبيط التعبئة الشعبية حول هذه الجماعات.
تعني حملات القمع أن على جميع الفلسطينيين تعديل حتى أدق جوانب حياتهم لتجنب عنف المستوطنين والمواجهة مع الجيش الإسرائيلي الذي يتمركز في جميع أنحاء الضفة الغربية.
أثناء الحصار، علقت الحياة أساساً بالنسبة لكثير من الذين يعيشون في نابلس وحولها بينما كانوا ينتظرون الحكومة الإسرائيلية، الكيان الذي لا يملك الفلسطينيون سلطة انتخابه، لاتخاذ قرار رفع الحصار والسماح للحياة بالعودة إلى بعض مظاهرها الطبيعية. وقد حدث الحصار خلال بداية موسم حصاد الزيتون الفلسطيني المُحتفى به، مما منع العديد من الأسر، بما في ذلك أسرتي، من التجمع لقطف الزيتون، وتعرض أولئك الذين تجرأوا على القيام بذلك لخطر أكبر من هجمات المستوطنين.
كل من تحدثت إليه في نابلس قال إن هذه هي أسوأ الظروف التي يمكن أن يتذكروها على مدى عقود، منذ الانتفاضة الثانية في أوائل عام 2000، بالنسبة لأولئك الكبار في السن بما يكفي لتذكرها.
وبينما أدرت سلسلة من مجموعات الدراسة مع الأطباء والممرضين والمرضى وأعضاء هيئة التدريس الطبية والطلاب، اتضح أنه من المستحيل بالنسبة لي قياس مدى الضرر الناجم عن الحصار الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، الصوت الصاخب الذي لا يهدأ لطائرات الاستطلاع العسكرية الإسرائيلية المسيّرة، التي كانت تنفذ الدوريات في نابلس على مدار 24 ساعة طوال أيام الأسبوع، أشار العديد من الناس إليها على أنها شكل من أشكال التعذيب النفسي.
كيف يمكنني قياس ذلك؟ ففي إحدى مجموعات الدراسة، وصلت إحدى أعضاء هيئة التدريس في مجال الصحة العامة متأخرة 90 دقيقة، موضحة أن الطريق الذي حاولت سلكه لدخول المدينة كان مغلقاً بواسطة إحدى نقاط التفتيش، لذا كان عليها أن تسلك طريقاً مختلفاً، لتعيد رواية التجربة بأسلوب عفوي كما قد يصف شخص ما ارتداءه لجوربين غير متطابقين بطريق الخطأ. ماذا يقول ذلك عن نفسية السكان عندما يجري تطبيع أحداث كهذه؟
لطالما شعرت بالمسؤولية عن نقل حقيقة الوضع بالنسبة للفلسطينيين، ليس فقط بصفتي باحثة ملتزمة بالعدالة والإنصاف، وإنما أيضاً بصفتي إنسانة يتحدر أهلها من الضفة الغربية. ولدت في نابلس لامرأة من قرية قريبة ورجل من بلدة فلسطينية ابتلعتها إسرائيل عند تأسيسها عام 1948. والدي كان يدرس الصحافة والعلوم السياسية في نابلس قبل أن ينقلنا إلى الولايات المتحدة، حيث ترعرعت.
صرت الآن أستاذة جامعية، لأنني أردت أن أسير على خطاه. أنا لست عالمة بالشؤون السياسية كما كان والدي، أنا عالمة في الصحة العامة. بطبيعة الحال، يتشابك الموضوعان في أي موضع: الصحة سياسة بطبيعتها. لكن في نابلس، تذكرت مدى عمق هذا الارتباط.
وقد ظل هذا السياق، في أغلبه، على حاله خلال السنوات الخمسين الماضية، حيث تخللته فترات من الحرية للفلسطينيين بصورة أكبر قليلاً، وفترات أخرى شهدت قيوداً وأعمال عنف شديدة. كنت أزور العائلة في الضفة الغربية كل صيف عندما كنت طفلة ولمعظم حياتي كشخصية بالغة. وأتذكر خطوط نقاط التفتيش الطويلة المتعرجة، حيث كان الجنود الإسرائيليون المعادون يبحثون في وثائقنا.
وأتذكر حظر الكهرباء الذي فرضته إسرائيل، مما جعلنا نقضي الليالي باستخدام الشموع والفوانيس فقط. أتذكر أنني تمكنت من السفر إلى مطار تل أبيب ولكن اضطررت إلى تبديل سيارات الأجرة في منتصف الرحلة إلى الضفة الغربية لأن سيارات الأجرة الفلسطينية لم يُسمح لها باصطحابنا.
والآن، أنا وآخرون من أصل فلسطيني، بصرف النظر عن الجنسية أو بلد الإقامة، لا يُسمح لهم حتى باستخدام ذلك المطار من دون إذن إسرائيلي خاص. وبدلاً من ذلك، ولأن إسرائيل قصفت آخر مطار فلسطيني ولن تسمح ببناء مطار جديد، فإننا نسافر من الضفة الغربية وإليها عبر الأردن... (مؤخراً، تمكنت قلة محظوظة من السفر جواً من مطار في جنوب إسرائيل).

* خدمة «نيويورك تايمز»