حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

جنرالات الحرب: أرستقراطية عسكرية أهلية

تغلب صورة الرعاع المسلحين على مقاتلي الحرب الأهلية اللبنانية. وانتقلت كلمة «ميليشيات» من التداول العام إلى مجالات الصحافة والبحث الاجتماعي التي تناولت المحاربين في صفوف التنظيمات الحزبية المختلفة. وتنطوي الكلمة على معنى تحقيري يضع حاملها في خانة أقرب إلى الإجرام والعداء لكل أشكال الالتزام بالقانون واحترامه مقابل انتهاك حقوق المدنيين وكراماتهم.
الصورة تلك سادت في القسم الأخير من الحرب الأهلية خصوصاً بعد سيطرة الميليشيات على العاصمة بيروت وانحسار العمليات العسكرية الواسعة. بيد أن الأمر لم يكن كله كذلك. فثمة أرستقراطية عسكرية أهلية أنتجتها الحرب. وستظل حاضرة.
وفاة القائد السابق لـ«جيش التحرير الشعبي - قوات الشهيد كمال جنبلاط» العميد رجا حرب، قبل مدة وجيزة، تصلح مناسبة لإلقاء الضوء على الأشخاص الذين أشرفوا على البنى العسكرية المحترفة وشبه النظامية التي أنشأتها القوى اللبنانية المختلفة التي انخرطت في حرب 1975 - 1990.
ويمثل رجا حرب نموذج «القائد» الذي خطط ونظم وأنشأ قوات محترفة تعمل لمصلحة حزب معين. وهو ليس وحيداً في مجاله. زميله الذي توفي قبله بسنوات قليلة شريف فياض، أدى دوراً بارزاً في العمل ذاته وللحزب ذاته، الحزب التقدمي الاشتراكي، وسجّل تجربته في كتابه «نار على روابي الجبل» وضمّنه تفاصيل زياراته إلى الاتحاد السوفياتي ومفاوضاته مع المسؤولين هناك للحصول على الأسلحة وتسليمها إلى الحزب عبر شحنها إلى الموانئ السورية.
وعلى الرغم من أن رجا حرب ترك المجال العام (إذا اتفقنا على أن النشاط العسكري الحزبي يندرج في هذا المجال) مع نهاية الحرب الأهلية واهتم بعمله الخاص، فيما تابع فياض انخراطه في الحياة السياسية كمفوض للشؤون السياسية في الحزب التقدمي، إلا أنهما تشاركا في الانتماء السابق إلى الجيش اللبناني الذي خدما في صفوفه كضابطين متوسطي الرتبة قبل أن يتركا الجيش ويلتحقا بالجهاز العسكري الذي أسسه كمال جنبلاط في أثناء حرب سنتَي 1975 و1976 وسمّاه «جيش التحرير الشعبي»، وأُضيفت إليه عبارة «قوات الشهيد كمال جنبلاط» بعد اغتيال الأخير في 1977.
ولم يكن حرب من الشخصيات التي يتكرر ظهورها على وسائل الإعلام، بيد أنه وصف تجربته في حرب الجبل 1983 في مقابلات أوردها الصديق مكرم رباح في كتابه «النزاع على جبل لبنان» الصادرة ترجمته إلى العربية أخيراً. الأهم أن رباح يرى أن حرب تعرض لـ«تجربة رضّية» روّعته ودمغته وأرته الكيفية التي كانت طائفته (الدرزية) تنظر إلى نفسها وإلى أعدائها الموارنة. كانت تلك الحادثة هي قتل النائب نعيم مغبغب الموالي للرئيس كميل شمعون، زعيم المسيحيين وخصم جنبلاط في الجبل.
التجربة الرضَية هذه أصابت شبيهات لها الكثير ممن سيقودون «جيوش» طوائفهم لاحقاً. وفي المذكرات والمقابلات المتوفرة يمكن ذكر إيلي حبيقة قائد «القوات اللبنانية» السابق، وأسعد الشفتري المسؤول الأمني في التنظيم ذاته، اللذين يشير إليهما رباح في كتابه.
مصيرا حبيقة والشفتري تباعدا وتناقضا بعد الحرب، فبينما أصبح حبيقة نائباً ووزيراً في حكومات ما بعد اتفاق الطائف منضوياً إلى نادي زعماء الطوائف الذين قطفوا ثمار السلام بعدما أشبعوا مواطنيهم من مرارات الحرب، سار الشفتري على طريق التوبة وطلب الغفران من ضحاياه الذين يروي بعض ارتكاباته بحقهم في كتابه «الحقيقة ولو بصوت يرتجف». وتواصل مع نظراء له على المقلب الآخر من متاريس الاقتتال خصوصاً المسؤول العسكري للحزب الشيوعي زياد صعب وأسسا معاً جمعية «محاربون من أجل السلام» التي تسعى إلى نشر الوعي بعبثية الاقتتال الأهلي.
الشفتري وصعب ليسا النموذج السائد بين القادة العسكريين السابقين في الحرب الأهلية. بل إن أكثرية المسؤولين الذين أشرفوا على المعارك وقادوها ونفذوا عملياتها الكبيرة، ما زالوا -كما يُستشف من المقابلات معهم أو مذكراتهم المنشورة أو الصلات الشخصية بهم- يجدون مبررات لما فعلوا في الحرب سواء كسلوك اضطراري للدفاع عن «الوجود» و«البقاء»، أو لإحباط مشاريع داخلية وخارجية لفرض سيطرة معادية على البلاد واستعباد سكانها. وهذه مصطلحات تبرز في قواميس عساكر اليمين واليسار والمسلمين والمسيحيين، سواء بسواء. فلكل فئة عدوها الذي يخطط ويعمل ويتآمر لاقتلاع الأهل والطائفة والحزب الذي ينتمي إليه القائد العسكري السابق المفترض.
في المرحلة الحالية من الانهيار اللبناني، يمكن العثور على المصطلحات ذاتها التي تحدّث بها رجا حرب وشريف فياض وبول عنداري (القائد الميداني السابق في «القوات اللبنانية» وصاحب عدد من الكتب عن تجاربه في الحرب): الوجود ما زال مهدداً. وهناك من يخطط «لاقتلاعنا من أرضنا» والسطو على «ثرواتنا» ومحو «هويتنا وتاريخنا».
الأرستقراطية العسكرية الأهلية التي التزمت الدفاع عن جماعاتها، ظاهرة لن تختفي في المستقبل القريب ما دام المجتمع اللبناني في طور التشكل من طريق الحروب الأهلية بأنواعها كافة.